رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: صلاح الدين مقبول أحمد 4 أكتوبر، 2010 0 تعليق

الفرقان تنشر المقال وفاءً للشيخ الفاضل-يرحمه الله-(2-2) الشيخ عبدالعزيز الهده… ربع قرن من الإخاء

تحدثنا في الحلقة الأولى عن الأعمال التي قام بها الشيخ الهده - رحمه الله- وذكرنا بعضاً من مؤلفاته مثل  تيسير الإسلام في شرح أركان الإسلام، وخير الهدي هدي محمد[ وفتاوى رمضانيه، ورسالة في حكم الغناء، والصلاة، وكم كان - رحمه الله - إماماً وخطيباً بارعاً ومتميزاً.

نبذة عن مميزاته وصفاته وآدابه ومواقفه:

كان أبو يوسف – رحمه الله – يتمتع بشخصية متعددة الجوانب، تميزت بأمور، منها:

• لم يكن يرضى بديلا عن منهج السلف في العقيدة والشريعة، والتعليم والتربية، والإفتاء والإفادة، ولم يكن يتنازل في (مادة الفقة) عن تدريس (فقه السنة والحديث والأثر) في المعهد الشرعي إلى فقه المذاهب.

• كانت عقليته تساير الركب الحضاري المعاصر في تحديث الأمور الإدارية وتطويرها، وهو من أوائل إخوتنا الذين استخدموا الكمبيوتر والإنترنت والبروجكتر وغيرها من الوسائل الحديثة في التدريس والإفادة، وإعداد الخطب والمحاضرات، وإنجاز الأمور الإدارية وغيرها، فلله درّه !

• وأقام دورات عديدة لتدريب الشباب على استخدام هذه الوسائل الحديثة واستعمالها في النافع والمفيد في الأمور.

ومن الطرائف أنه درّبني يوماً واحداً على استخدام الكمبيوتر، ثم عاد ليعلّمني بعد خمس سنوات أو أكثر. فقلت له: استعجلت، فقال: لما رأيت فيك من الجّدية وصدق الطلب رحمه الله رحمة واسعة.

• كان واسع الثقافة والمعرفة حتى في غير مجال تخصّصه، فإنه استحدث موقعاً متميزاً على الشبكة العنكبوتية للفتاوى وتبادل المعلومات باسم (منتدى الفتاوى الشرعية)، دلت على نجاحه كثرة الواردين إليه من شتى أنحاء العالم.

وزد على ذلك أنه كان عنده إلمام جيد بالطبّ الشعبي، وباشر الحجامة بنفسه أحياناً.

• كان عطوفاً رحيماً بالشباب، يشاركهم أفراحهم وأحزانهم، ويوفر لهم وسائل النقل للحضور في دروس المعهد الشرعي والدواوين، ولاسيما للإخوة الذين كانوا يحتاجون إلى مثل هذه الرعاية والاهتمام.

• كان ذا شخصية قوية مع هيبة ووقار، يباشر الأمور بعزم، ويتدخل في حل المشكلات بحزم، صريحاً في تعامله مع زملائه وطلبته من غير مجاملة، يواجههم بكل ما عنده من الدليل والبرهان عند الخلاف، ولاسيما عندما حصلت الفرقة بين الإخوة بعد الغزو، واختلط الحابل بالنابل، فتكلم حين سكت الكثيرون، فاستهدف أكثر من غيره لصراحته المعهودة.

وفي السماء نجوم لا عداد لها

وليس يكسف إلا الشمس والقمر

نعم، كان أبو يوسف – رحمه الله – رجلاً من الناس، يأخذ ويعطي، ويصيب ويخطئ:

من ذا الذي ما ساء قط

ومن له الحسنى فقط

ولكن أين مثله؟ لم يكن يوماً من الأيام  معروفاً بالفجور في الخصومة، بل كان في أغلب أحواله مظلوماً من قبل تلاميذه وأحبائه:

وظلم ذوي القربي أشّد مضاضة

على المرء من وقع الحسام المهنّد

• خلق أبو يوسف – رحمه الله – للعمل في مجال الدعوة، «كل ميسّـر لما خلق له» وبروزه في هذا المجال يدّل على أنه لم يخلق لغيره، وإلا ما الذى كان مانعاً من مباشرته (التجارة) أسوة بأفراد عائلته ؟!  فهنيئاً له هذه الوظيفة التي قام بها الأنبياء والرسل، وأصحابهم، ومن تبعهم من صالحي الأمة إلى يوم الدين.

• الشخصية القوية سمة من سمات التميّز في كل مجال من مجالات الحياة البشرية، ويظهر معدنها في أبهى صورة عند المحن والشدائد، ولم تمّر الكويت – حرسها الله - بمحنة أشدّ من محنة الغزو العراقي الغاشم لها، فكان أبو يوسف وغيره من زملائه البارزين مثل الشيخ حمد الأمير، لم يخرجوا من الكويت، لعلهم تأولوا حتى لا يقعوا في وعيد (الفرار يوم الزحف)«، الذي هو من أكبر الكبائر في الإسلام، وكانوا من الصامدين في وجه الاحتلال، المعاونين للأهالي نصحاً وإرشاداً، وتغذية وتمويناً. وكان قيام هذين الشيخين الجليلين مع زملائهما: مثل الإخوة الأفاضل علي دخيل العنزي، وجابر جعيثن الشمري - بتشكيل لجنة لإدارة الجمعية التعاونية الرئيسية بالجهراء، وتوصيل المواد التموينية إلى بيوت الأهالي، لئلا يصابوا بأذى هؤلاء الوحوش كان – ولا شك - عملاً بطولياً جليلاً لا يحتاج إلى دليل:

 أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع

• كان يتمتع بعلاقات واسعة بكل فئات المجتمع مع نيله ثقتهم، لما كان فيه من إخلاص ودين، وحبّ ومودّة، وصدق ونزاهة، وخلق وأدب، زرعت له المحبة في قلوب العباد، وقد رئي بعض مشاهدها في جنازته المشهودة.

من إرهاصات وداعه للدنيا:

كان هناك إرهاصات لوداعه للدنيا؛ فقد تخلّى عن رئاسة الهيئة الإدارية بجمعية إحياء التراث الإسلامي (بفرع الجهراء)، قبل وفاته بعدة أشهر، ووكّل المسؤوليات إلى هيئة جديدة شملت كوكبة من الشباب الصاعد معروفة بالعقيدة والدين والخلق والأدب، وذلك تحت رئاسة أخينا الفاضل الدكتور فرحان عبيد الشمري، كثر الله في شباب الأمة من أمثالهم.

ولا ريب أنه كان موفقاً في هذا الاختيار، ومطمئناً به، وكان يحضر الفرع يومياً بعد ذلك، ويراقبه عن كثب، ثم بدأ يزوره غباً. وهكذا...

سألته ذات مرة – وقد صعب عليّ غيابه لأيام عدة - عن هذا الجفاء فقال: «أريد فك الارتباط» رحمه الله رحمة واسعة.

وفاته :

كنّا جلوساً بعد العصر في جمعية إحياء التراث الإسلامي – فرع الجهراء – وكنت حينذاك على أهبة النزول إلى الهند في اليوم التالي – فقال الشيخ: نذهب نهنئ فضيلة الشيخ محمد الحمود النجدي – حفظه الله – على زواجه الجديد، فاتجهنا إلى منطقة صباح الناصر بسيارة أخينا الفاضل الشيخ مشعل تركي - وفقه الله لكل خير – ولما رجعنا إلى الجهراء نزلت عند السكن بجوار مسجد عبدالله خلف السعيد، وكان الشيخ من طيبه يودّعني بحرارة ويستقبلني بحرارة، ولكنه هذه المرة نزل وودّعني بحرارة زائدة غير معهودة قائلاً: « سامحني وسلّم على الأهل».

لم يكن على البال قطعاً أنه توديع منه حقيقي لا لقاء بعده أبداً في دار الدنيا، لو علمت لقلت له: لا تستعجل، نحن في أشد الحاجة إليك، ولكن: {إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون} (نوح: 4).

عاش الشيخ حياة مترامية الأطراف، متعددة الجوانب، نابضة بالحيوية والنشاط، حافلة بالعطاء الفيّاض في مجال الدعوة والإرشاد، والتدريس والإفتاء، والذود عن حياض الكتاب والسنة، والدفاع عن منهج السلف الصالح، حتى وافاه الأجل المحتوم في بيته في الجهراء   (فجر الخميس 23 شعبان 1425 هـ - الموافق 7 أكتوبر 2004 م) وعمره نحو ثمان وأربعين سنة، ودفن بعد صلاة العصر في مقبرة الجهراء « فإنا لله وإنا إليه راجعون»

وكانت في حياتك لي عظات

وأنت اليوم أوعَظ منك حياً

ولا يسعنا إلا أن نقول عند هذا المصاب الجلل، ما قاله نبينا محمد [ عند وفاة ابنه إبراهيم: «إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا. وإنا على فراقك لمحزونون».

جنازته:

كانت جنازته حافلة مشهودة، لم ير مثلها، بشهادة المواطنين والمقيمين من كبار السّن، توارد إليها الناس من كل حدب وصوب، حتى توقفت حركة المرور في الشارع المؤدّي إلى المقبرة، لكثرة الازدحام الممتد إلى مسافة بعيدة.

صدق قول الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله – في مثل هذا المشهد:

« الفرق بيننا وبين أهل البدع يوم الجنائز».

هكذا أفل هذا الكوكب النيّر، وفي مثله قيل:

ما كنت أحسب قبل دفنك في الثرى

أن الكـواكـــب فـي التـراب تغـــور

ما كنــــت آمـــل قـــبل نعشــــك أن أرى

رضوى على أيدي الرجال تسير

هكذا رحل إلى الدار الآخرة، تاركاً وراءه جمّاً غفيراً من زملائه وتلامذته وأولاده وأقاربه وغيرهم من أحبّاء، داعين له ومستغفرين، وراجين أن يصدق عليه ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة – رضى الله عنه – عن النبي [، قال:

« إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع  به، أو ولد صالح يدعو له».

اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسّع مدخله.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك