رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي 30 سبتمبر، 2024 0 تعليق

شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: ما يقتل المُحْرِم مِنَ الدّواب

  • شَرَعَ الإسلامُ ما يَحفَظُ على المَرءِ حَياتَه وأمْوالَه من التَّلَفِ ومن ذلك أنَّه أجاز قتْلَ بعضِ الحَيواناتِ والطُّيورِ لِما تُسبِّبُه من أذًى وضَرَرٍ على النَّاسِ
  • في الحديث دلالة على كمال التشريع الإسلامي حيث طلب القضاء على ذوي الفَساد والإفساد
 

عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «خَمْسٌ فَوَاسِقُ، يُقْتَلْنَ فِي الحِلِّ وَالْحَرَمِ: الحَيَّةُ، وَالغُرَابُ الْأَبْقَعُ، والْفَأْرَةُ، والْكَلْبُ الْعَقُورُ، والْحُدَيَّا»، وعَنْ ابن عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما-: عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «خَمْسٌ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ: الْفَأْرَةُ، وَالْعَقْرَبُ، والْغُرَابُ، والْحِدَأَةُ، والْكَلْبُ الْعَقُورُ». وقَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ فِي رِوَايَتِهِ: «فِي الْحُرُمِ والْإِحْرَامِ»، الحديث رواه مسلم في الحج (2/856) باب: ما يندي للمُحرم وغيره قتله من الدواب في الحلّ والحرم.

        في هذا الحَديثِ يقولُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «خَمسٌ فَواسِقُ» وسُمِّيَتْ فَواسِقَ لخُبْثِهِنَّ، وقيل: لخُروجِهِنَّ من الحُرمةِ في الحِلِّ والحَرَمِ، بمعنى: لا حُرْمةَ لها بحالٍ. وقيل: أرادَ بتَفْسيقِها تَحريمَ أَكْلِها، أو هي فَواسِقُ لخُروجِها على النَّاسِ، واعتِراضِها بالمَضَارِّ عليهم، وقيلَ: إنَّ تَسْميتَها فَواسِقَ، لخُروجِها عمَّا عليه سائرُ الحَيَوانِ، بما فيها مِن الضَّررِ الذي لا يُمكِنُ الاحترازُ منه.

تسمية صحيحة جارية

         قال الحافظ: قال النووي وغيره: تسمية هذه الخمس فواسق، تسمية صحيحة جارية على وفق اللغة، فإنّ أصْل الفسق لغة: الخُرُوج، ومنه، فسقت الرطبة: إذا خرَجت عن قشرها، وقوله -تعالى-: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} (الكهف: 50)، أي: خَرج، وسُمِّي الرجل فاسقًا لخُرُوجه عن طاعة ربّه، فهو خُروج مخْصُوص.

قوله: «يُقتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَمِ»

أي: يُقتَلْنَ أينَما وُجدن، حتى وإنْ كنَّ في الحَرَمِ، لأنَّ الأصْلَ هو النَّهيُ عن قَتلِ حَيَواناتِ الحَرَمِ أو صَيدِهِنَّ. والحَرَمُ: حَرَمُ مكة، وسُمِيَ بذلك لاحترامه وتعظيمه، وهو ما كان داخل الأميال التي تبعد عن الكعبة بنسب مختلفة: أطولها: 14 ميلاً من جهة بطن عرنة، وأقصرها: 3 أميال منْ جهة التّنعيم، والحِل: ما كان خارج حُدود الحَرم. قال الحافظ: «وعرف بذلك أنْ لا إثم في قتلها على المُحْرم، ولا في الحرم، ويؤخذ من جواز ذلك للحلال وفي الحل من باب الأولى، وقد وقع ذكر الحل صريحًا عند مسلم: من طريق معمر عن الزهري عن عروة بلفظ: «يقتلن في الحل والحرم»، ويعرف حكم الحلال بكونه لمْ يقم به مانع، فهو بالجواز أولى».

قوله: «الحَيَّةُ»

وهي الثُّعبانُ، «والفَأرةُ» وذلك لخُروجِها من جُحْرِها على النَّاسِ، وإفْسادِها لمَعايَشِهم، وأمْوالِهم، وزُروعِهم، وغيرِ ذلك.

«والغُرابُ الأبقَعُ»

         وهو الذي فيه سَوادٌ وبَياضٌ؛ وذلك لأنَّ هذا الغُرابَ يتَّعدّى على النَّاسِ ويُؤذيهم، ويسرق طعامهم، أمَّا الغُرابُ الأسوَدُ فلا يُهاجِمُ فلا يَقتُلُ، قال الحافظ: «قال ابن قدامة: يلتحق بالأبقع ما شاركه في الإيذاء وتَحريم الأكل، وقد اتفق العلماء على إخْراج الغراب الصّغير الذي يأكل الحَبّ، ويقال له: غراب الزّرع، ويقال له: الزّاغ، وأفتوا بجواز أكله، فبقي ما عداه من الغربان مُلْتحقٌ بالأبقع».

قوله: «والكَلبُ العَقورُ»

        أي: المُتّصف بالعَقر، وهو الذي يجرح بنابه أو ظفره، وهو الذي يَهجُمُ على النَّاسِ، وعلى الحَيَواناتِ ويعقرها، أي: يقتلها. «والحِدَأةُ» وهو طائر من الجوارح، يعيش على أكل الجيف وصغار الطيور، ويَخطَفُ صِغارَ الحيوانات وما يُشبِهُها، «والكلب العقور» قال مالك في الموطأ: كل ما عَقَر الناس، وعدا عليهم وأخافهم، مثل: الأسد والنمر والفهد والذئب، هو العقور. قال الحافظ: «وهو قول الجمهور، وقال بعض العلماء: أنواع الأذى مختلفة، وكأنه نبَّه بالعَقرب على ما يُشاركها في الأذى باللّسع، ونحوه من ذوات السموم، كالحيّة والزّنْبور، وبالفأرة على ما يشاركها في الأذى بالنقب والقَرض، كابن عرس، وبالغراب والحدأة، على ما يشاركها في الأذى بالاختطاف كالصقر، وبالكلب العقور على ما يشاركه في الأذَى بالعدوان والعقر كالأسد والفهد». «فتح الباري» (4/ 40).

التَّنبيه على ما يضُرُّ بالأموالِ

        وقيلَ: قد ذكَرَ الحِدَأةَ والغُرابَ للتَّنبيهِ على ما يضُرُّ بالأموالِ مُجاهَرةً، وعلى ما أذاهُ بالاختِطافِ كالصَّقْرِ والبازِ، وذكَرَ الفأْرةَ للتَّنبيهِ على ما يضُرُّ بالأموالِ اختِفاءً، ونبَّهَ بالكَلبِ العَقورِ على كُلِّ عَادٍ بالعَقرِ والافتِراسِ بطَبْعِه، كالأسَدِ والفَهْدِ والنَّمِرِ، ونَبَّهَ بالحَيَّةِ والعَقْرَبِ على ما يُشارِكُهما في الأَذى باللَّسْعِ، وأيضاً: «الوزغ»: فعن عائشة -رضي الله عنها-: أنّ رسُول الله - قوله: «يُقتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَمِ»- قال: «الوَزَع فُويْسق»، ولمْ أسْمَعه أمَر بقتله، رواه البخاري. قال الحافظ: «وقضية تَسْميته إيّاه فويسقًا، أنْ يكونَ قتله مباحًا، وكونها لمْ تَسمعه لا يدلّ على منع ذلك، فقد سَمَعه غيرها، انتهى، ونقل ابن عبدالبر: الاتفاق على جواز قتله في الحِلّ والحَرم، وروى ابن أبي شيبة: أنّ عطاء سئل عن قتل الوزغ في الحَرم، فقال: إذا آذاك فلا بأس بقتله، والله أعلم». (4/40). وقال في الاختيارات: «والقَمل والبعوض والقَرَد إن قرصه قتَله عقاباً، وإلا فلا يقتله، ولا يجوز قتل النّحل وهو يأخذ عسله، وإنْ لم يندفع ضرره إلا بقتله جاز». «الاختيارات الفقهية» (1/466).

من فوائد الحديث

  • شَرَعَ الإسلامُ ما يَحفَظُ على المَرءِ حَياتَه وأمْوالَه من التَّلَفِ، ومن ذلك أنَّه أجاز قتْلَ بعضِ الحَيواناتِ والطُّيورِ، لِما تُسبِّبُه من أذًى وضَرَرٍ على النَّاسِ.
  • وفيه: مُحاربة الإسْلام للأذى والعدوان، حتّى في البهائم.
  • كمال التشريع الإسلامي؛ حيث طلب القضاء على ذوي الفَساد والإفساد.
  • ومنها: مشروعية قتل هذه الدَّوَابّ الخمسِ في الحِلِّ والحرم، للمُحل والمُحرم.
  • جواز قتل كل ما شابهها في طَبْعها من الأذية والضّرر، وقيل: بجواز قتلها ولو كانت صغيرة، اعتباراً بمآلها.
   

السنة وحي كالقرآن

        إن من أصول الدين طاعةَ رسول رب العالمين، والأخذَ بسُنَّتِهِ، وترك ما نهى عنه، وتصديق خبره، والإيمان بما جاء به، وألَّا نعبد الله إلا بما شرعه رسول الله - قوله: «يُقتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَمِ»-، وهذا هو معنى شهادة أن محمدًا رسول الله، كما أن معنى شهادة لا إله إلا الله هو الإخلاص لله -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (النساء: 59)، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (النساء: 80). فاتباع السنة وطاعة الرسول - قوله: «يُقتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَمِ»- هي الهداية والنجاة والسعادة، وهي الصراط المستقيم.   قال الإمام مالك -رحمه الله-: «السُّنَّة سفينة نوح، من ركِبها نجا، ومن تخلَّف عنها غرِق». {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال: 24).

التحذير الشديد والوعيد

        وقد جاء التحذير الشديد والوعيد الأكيد على ترك السنن، ومخالفة هَدْيِ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ قال الله -تعالى-: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63)، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام: 153)، وقد قال رسول الله -[-: «من أطاعني، فقد أطاع الله، ومن عصاني، فقد عصى الله».

السُّنَّة المأثورة الصحيحة

        ثم اعلم أن السُّنَّة المأثورة الصحيحة عن النبي - قوله: «يُقتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَمِ»- هي وحي، كما أن القرآن وحي: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 4)؛ أي: القرآن، {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 44)، {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44): أي: بالسُّنَّة، فالسُّنَّة تُبيِّن القرآن وتوضِّحه، وتُفصِّل أحكامه؛ وقد قال النبي - قوله: «يُقتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَمِ»-: «ألَا إني أُوتيت الكتاب ومثله معه -أي السنة- ألَا يُوشِك رجل شبعان على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحِلُّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرِّموه»(2).

السنة لا تعارض بشيء

         وهذه السُّنَّة المطهَّرة لا تُعارَض بشيء، لا تُعارَض بالآراء، ولا بأقوال الرجال، ولا تُعارَض بالأهواء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الحجرات:1)، قال الإمام أحمد -رحمه الله-: «من ردَّ حديث النبي - قوله: «يُقتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَمِ»-، فهو على شفا هَلَكَة».

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك