شرح كتاب الحج من صحيح مسلم.. باب: كمْ حَجّ النّبيّ – صلى الله عليه وسلم -؟
- الحجُّ والعُمرةُ مِن أجلِّ الطاعاتِ التي حرَصَ عليها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وقد تَعدَّدَت المرَّاتُ التي اعتَمَرَ فيها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
- في الحديث جانِبٌ من حِرصِ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ على حِفظِ سِيرةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في كلِّ جَوانِبِها
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَأَلْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ: كَمْ غَزَوْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - قَالَ: سَبْعَ عَشْرَةَ. قَالَ: وَحَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غَزَا تِسْعَ عَشْرَةَ، وَأَنَّهُ حَجَّ بَعْدَ مَا هَاجَرَ حَجَّةً وَاحِدَةً؛ حَجَّةَ الوَدَاعِ، قَالَ أَبُو إِسْحَقَ: وبِمَكَّةَ أُخْرَى. الحديث رواه مسلم في الحج (2/916) باب: بيان عدد عُمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وزمانهنّ، ورواه البخاري (3949)في المغازي: باب: غزوة العُشَيرة أو العُسَيرة.
في هذا الحَديثِ يَرْوي التَّابِعيُّ الثقة العابد أبو إسْحاقَ وهو السَّبِيعيُّ عمرو بن عبدالله، أنَّ زَيدَ بنَ أرْقَمَ بنِ زَيدٍ الأنْصاريَّ - رضي الله عنه - سُئِل: كمْ غَزوت مع النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من غَزْوةٍ؟ والغَزْوةُ هي الجَيشُ الَّذي يَخرُجُ فيه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بنفْسِه، والبَعثُ أوِ السَّريَّةُ: هو الجَيشُ الَّذي يُرسِلُه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا يَخرُجُ فيه، فأجابَ زَيدُ بنُ أرْقَمَ - رضي الله عنه -: أنَّ عدَدَ الغَزَواتِ كان سبعَ عَشْرةَ غَزْوةً، خرَج فيها بنفْسِه، وفي رواية: تسع عشرة. لكن رُوى عن جابر - رضي الله عنه -: أنّ عدد غزواته - صلى الله عليه وسلم - إحدى وعشرون غزاة، ففاتَ زَيدَ بنَ أرْقَمَ - رضي الله عنه - ذِكرُ غَزوَتَينِ منْها، ويُحتَمَلُ أنْ تَكونَا الأبْواءَ وبُواطَ، ولعَلَّهما خَفِيَتا عليه لصِغَرِه.الغزوات التي قاتل فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -
وقد قاتَلَ - صلى الله عليه وسلم - بنفْسِه في ثَمانٍ منها، وهي: بَدرٌ، ثمَّ أُحُدٌ، ثمَّ الأحْزابُ، ثمَّ بَنو المُصْطَلِقِ، ثمَّ خَيبَرُ، ثُمَّ مكَّةُ، ثمَّ حُنَينٌ، ثمَّ الطَّائفُ، وقد أهمَلَ بَعضُهم عدَّ غَزْوةِ بَني قُرَيْظةَ؛ لأنَّه ضَمَّها إلى الأحْزابِ؛ لكَوْنِها كانت في إثْرِها، وأفْرَدَها بَعضُهم؛ لكَوْنِها وقَعَت مُنفَرِدةً بعدَ هَزيمةِ الأحْزابِ.أيُّ الغَزَواتِ كانتْ أوَّلَ؟
وسَأَلَه أبو إسْحاقَ السَّبيعيُّ في رواية: أيُّ الغَزَواتِ كانتْ أوَّلَ؟ قال: العُسَيْرةُ، أوِ العُشَيرُ، على الشَّكِّ في تَحْديدِ الاسْمِ. قال شُعْبةُ بنُ الحَجَّاجِ -أحَدُ رُواةِ الحَديث: فذكَرْتُ ذلك لقَتادةَ بنِ دِعامةَ، فقال: العُشَيرُ، وفي نُسْخةٍ: العُشَيْرةُ، وكان المَطْلوبُ في هذه الغَزاةِ عِيرَ قُرَيشٍ الَّتي خَرَجَت مِن مكَّةَ ذاهِبةً إلى الشَّامِ بالتِّجارةِ، وكانت هذه الغَزْوةُ في مِنطَقةِ العُشَيْرةِ، وهي مِنطَقةٌ مَوْجودةٌ قُربَ يَنبُعَ حاليًّا، وتَبعُدُ مَسافةَ (2) كيلوِ عن قَرْيةِ المُبارَكِ باتِّجاهِ الشَّرقِ، وكان ذلك في أواخِرِ شَهرِ جُمادى الأُولى وأوائلِ جُمادى الآخِرةِ مِن العامِ الثَّاني للهِجْرةِ، وقد فات المُسلِمينَ القِتالُ واغْتِنامُ القافِلةِ في هذه الغَزْوةِ، ولكنْ تَرصَّدَها المُسلِمونَ بعْدَ ذلك أثْناءَ رُجوعِها مِن الشَّامِ، وكانوا يَترَقَّبونَ رُجوعَها، فخَرَج النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَتلَقَّاها ليَغنَمَها، ولكنَّ أبا سُفْيانَ قائدَ القافِلةِ تَنحَّى بَعيدًا عن طَريقِ المُسلِمينَ، وأخَذ طَريقَ البَحرِ، ونَجا بالقافِلةِ، وبسببِ ذلك كانت وَقْعةُ بَدرٍ في السَّنةِ الثَّانيةِ مِن الهِجْرةِ، حيث خرَج المُشرِكونَ مِن مكَّةَ؛ لحِمايةِ القافِلةِ، والحِفاظِ على مَكانَته.حجّ النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال: «وأنه حَجّ بعد ما هَاجر حَجّة واحدة: حَجّة الوَدَاع» وهي في السنة العاشرة من الهجرة، قال أبو إسحاق في رواية: «وبمكة أخرى» يعني: قبل الهجرة، وقد روي في غير مسلم: «قبل الهجرة حجتان». وفي رواية أخرى عن قتادة قال: «سألت أنساً: كمْ حَجّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: حجة واحدة». رواه مسلم، ومعناه: لمْ يَحجّ بعد الهِجْرة؛ إلا حجةً واحدة. فوائد الحديث:- في الحديث عدَدُ الغَزَواتِ الَّتي غَزاها رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.
- وفيه: فَضيلةُ الصَّحابيِّ زَيدِ بنِ أرْقَمَ، وحِرصُه على الجِهادِ في سَبيلِ اللهِ تعالَى.
- وفيه جانِبٌ من حِرصِ التَّابِعينَ، والصَّحابةِ على حِفظِ سِيرةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في كلِّ جَوانِبِها.
- أنّ الجِهادُ في سَبيلِ اللهِ هو ذِرْوةُ سَنامِ الإسْلامِ، ومَصدَرُ عِزِّ المُسلِمينَ، وهو بابٌ عَظيمٌ مِن أبْوابِ الجَنَّةِ، وقدْ كَثُرتِ النُّصوصُ في الحَثِّ والحَضِّ عليه، وكَثُرتِ الغَزَواتُ الَّتي قادَها رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بنفْسِه، وتَبِعَه فيها أصْحابُه الكِرامُ -رَضيَ اللهُ عنهم- أجْمَعينَ.
باب: كم اعْتَمرَ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم ؟
عن أَنَس - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ؛ كُلُّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، إِلَّا الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ عُمْرَةً مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ، أَوْ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ، فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وعُمْرَةً مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وعُمْرَةً مِنْ جِعْرَانَةَ؛ حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ. (1253/217)، الحديث رواه مسلم في الموضع السابق. والعُمرةُ هي: التعبُّدُ للهِ -تعالَى- بالإحرامِ مِن الميقاتِ والطَّوافِ بالبيتِ، والسَّعْيِ بيْن الصَّفا والمَروةِ، والتحَلُّلِ منها بالحَلْقِ أو التَّقصيرِ، وليس لها وقتٌ مُحدَّدٌ في العامِ. فيقول أنسٌ - رضي الله عنه - إنَّه - صلى الله عليه وسلم - اعتمَرَ أربعَ عُمُراتٍ؛ العمرةُ الأُولى: عُمرةُ الحُدَيْبِيةِ في ذي القَعدةِ سَنةَ سِتٍّ مِن الهِجْرةِ؛ حيثُ صَدَّهُ المُشركونَ، ولم يَصِلِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابُه إلى البيتِ الحرامِ، فتَحلَّلُوا، وحُسِبَت لهم عُمرةً. وفي صَحيحِ البُخاريِّ، عن ابنِ عباسٍ -رَضيَ اللهُ عنهما-: «قد أُحصِرَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فحَلَقَ رَأسَه، وجامَعَ نِساءَهُ، ونحَرَ هَدْيَه، حتى اعتَمَرَ عامًا قابلًا». والحُدَيْبِيَةُ: قَريةٌ كَبيرةٌ على القُرْبِ مِن مكَّةَ ممَّا يَلي المدينةَ، سُمِّيتْ ببئْرٍ هناكَ، والآنَ هي وادٍ بيْنَه وبيْنَ مكَّةَ 22 كيلومِترًا على طَريقِ جُدَّةَ، واشتَهَرَ اسمُ الحُديبيةِ في السُّنةِ بالصُّلحِ الذي وَقَعَ بيْن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وقُريشٍ.العُمْرةُ الثانيةُ: عُمرةُ القَضاءِ
- والعُمْرةُ الثانيةُ: عُمرةُ القَضاءِ، حيث تَصالَحَ وتوافَقَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مع المشركينَ؛ أنْ يَرجِعَ مِن الحُدَيْبيَةِ ويَأتي العامَ المقبِلَ، فكانت في ذي القَعدةِ مِن السَّنةِ السَّابعةِ مِن الهِجرةِ، وتُسمَّى أيضاً: عُمرةَ القضيَّةِ، وإنَّما سُمِّيَت بعُمرةِ القَضاءِ والقَضيَّةِ؛ لأنَّه - صلى الله عليه وسلم - قاضَى قُريشًا فيها، لا أنَّها وَقَعَت قَضاءً عن العُمرةِ التي صُدَّ عنها؛ إذ لو كان كذلك لَكانَتَا عُمرةً واحدةً.
العُمرةُ الثالثةُ: عُمرةُ الجِعِرَّانَةِ
- والعُمرةُ الثالثةُ: عُمرةُ الجِعِرَّانَةِ، وهي مَوضعٌ بيْن مكَّةَ والطَّائفِ، على سَبعةِ أميالٍ (11 كم تقريبًا) مِن مكَّةَ، وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - نزَلَها حِينما كان راجعًا إلى المدينةِ مِن غَزوةِ حُنَينٍ؛ حيثُ قَسَمَ غنائمَ حُنَينٍ- وهو وادٍ بيْنه وبيْن مكَّةَ ثَلاثةُ أميالٍ، ثمَّ أحرَمَ منها، ودخَلَ مكَّةَ لَيلًا، وأدَّى مَناسِكَ العُمرةِ، ثمَّ عاد إلى الجِعْرانةِ، فأصبَحَ بها كبائتٍ، فسُمِّيتْ عُمرةَ الجِعِرَّانَةِ، وكان ذلك في السَّنةِ الثَّامنة مِن الهِجرةِ.
العمرةُ الرَّابعةُ: عمرة حَجَّةِ الوَداعِ
- وأمَّا العمرةُ الرَّابعةُ، فهي العُمرةُ التي كانتْ مع حَجَّتِهِ -حَجَّةِ الوَداعِ في السَّنةِ العاشرةِ مِن الهجرةِ، وقد كان قارنًا بيْنهما، وكذلِك ورد أنّ قَتادةُ سأل أنساً - رضي الله عنه -: كم مرَّةً حجَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -؟ فأجابَهُ - رضي الله عنه - بأنَّه - صلى الله عليه وسلم -: لم يَحُجَّ إلَّا مرَّةً واحِدةً، وذلك في العامِ العاشرِ مِن الهِجرةِ، وهي المَعروفةُ بحَجَّةِ الوداعِ.
فوائد الحديث:
- الحجُّ والعُمرةُ مِن أجلِّ الطاعاتِ التي حرَصَ عليها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وقد تَعدَّدَت المرَّاتُ التي اعتَمَرَ فيها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.
لاتوجد تعليقات