
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم .. باب: ركوب البدنة
- أرسلَ الله تعالى نبيَّه مُحمَّداً صلى الله عليه وسلم رَحمةً للعالَمينَ وجعَل في امتِثالِ أمْرِه واجْتِنابِ نَهْيِه النَّجاةَ والصلاح واليُسر في الدُّنيا والآخِرةِ
- في الحديث التَّرغيبُ في بَعثِ الهَدايا إلى مكَّةَ والتَّوكيلُ فيها إنْ لم يَذهَبْ بنفْسِه
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقَالَ: «ارْكَبْهَا»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّها بَدَنَةٌ؟ فَقَالَ: «ارْكَبْهَا وَيْلَكَ، فِي الثَّانِيَةِ، أَوْ فِي الثَّالِثَةِ»، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عبداللَّهِ -رضي الله عنهما-: سُئِلَ عَنْ رُكُوبِ الْهَدْيِ؛ فَقَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ؛ إِذَا أُلْجِئْتَ إِلَيْها، حَتَّى تَجِدَ ظَهْراً». الحديثان رواهما مسلم في الحج (2/960-961) باب: جواز ركوب البدنة المُهداة لمن احتاج إليها.
الحديث الأول
في الحديثِ الأول: يَرْوي أبو هُرَيرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم- رَأى رجُلًا ماشياً على قَدمَيه، ويَسوقُ أمامَه بَدَنةً، قدْ أهْداها إلى البَيتِ الحرامِ، يَتقرَّبُ بها إلى اللهِ -تعالى-، والبَدَنةُ: تكونُ مِنَ الإبلِ خاصَّةً، وقيل: البُدْنُ تُطلَقُ على الإبلِ والبقَرِ، فأمَرَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِرُكوبِها؛ ليَستريحَ ولا تحَصَلَ له مَشقَّةِ المَشْيِ ولا التّعب، فأخْبَرَه الرَّجُلُ أنَّها بَدَنةٌ مُهداةٌ إلى الكَعبةِ، فكيف يَركَبُها؟
فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في المرَّةِ الثانيةِ أو الثالثةِ: «ارْكَبْها، وَيلَكَ!» وأصلُ الوَيلِ: العذابُ الشَّديدُ، وهو غيرُ مَقصودٍ هنا، وإنَّما أرادَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَغلُظَ له في القَولِ لِيركَبَها.
وفيه: مَشروعيَّةُ رُكوبِ الهَدْيِ لمَن احتاج إليها، حتّى يجدَ ظهراً.
وهو مذهبُ الشافعي في رُكوب الهَدي؛ إذْ يقول: إنّه يَرْكبُها إذا احْتاج، ولا يَرْكبها مِنْ غيرِ حاجة، ويَركبُها بالمَعروف مِنْ غَيرِ إضْرار بها، وبهذا قال ابن المنذر وجماعة، وهو رواية عن مالك.
وقال عروة بن الزبير ومالك في الرواية الأخرى وأحمد وإسحاق: له رُكوبها مِنْ غير حاجةٍ، بحيث لا يضرّها، وبه قال أهل الظاهر. وقال أبو حنيفة: لا يَركبها إلا أنْ لا يجدَ منْه بُدّاً. وحكى القاضي عن بعض العلماء: أنه أوْجبَ رُكوبها المُطلق؛ للأمْر بذلك، ولمُخَالفة ما كانت الجَاهلية عليه مِنْ إكرام البَحِيرة والسائبة والوصيلة والحامي، وإهْمَالها بلا رُكوب.
ودليل مَن منعَ منْ غير حاجة: أنّ الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهْدَى ولمْ يَرْكب هديه، ولمْ يأمر الناسَ برُكوب الهَدَايا، ودليلنا على عروة وموافقيه رواية جابر المذكورة. والله أعلم. «انظر: شرح النووي».
فوائد الحديث
- جواز رُكوبِ الهَدْيِ، خصوصا لمَن لم يجد الظهر.
- وفيه: النَّدْبُ إلى المُبادَرةِ إلى امتثالِ أمْرِ اللهِ -تعالى- ورَسولِه -صلى الله عليه وسلم -، وزجْرُ مَنْ لم يُبادِرْ إلى ذلك، وتَوبيخُه.
- إنّ الله -تعالى- أرسلَ نبيَّه مُحمَّداً - صلى الله عليه وسلم - رَحمةً للعالَمينَ، وجعَل في امتِثالِ أمْرِه واجْتِنابِ نَهْيِه النَّجاةَ الصلاح واليُسر في الدُّنيا والآخِرةِ، وكانتْ طَريقتُه التَّيسيرَ على الناسِ في عِباداتِهم وحَياتِهم.
الحديث الثاني
عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عبداللَّهِ -رضي الله عنهما-: سُئِلَ عَنْ رُكُوبِ الْهَدْيِ؛ فَقَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ؛ إِذَا أُلْجِئْتَ إِلَيْها، حَتَّى تَجِدَ ظَهْراً».
في هذا الحَديثِ يُخبِرُ التَّابِعيُّ أبو الزُّبيرِ محمَّدُ بنُ مُسلِمٍ الأسدي مولاهم، أنَّ جابرَ بنَ عبداللهِ -رضي الله عنهما- سُئلَ عنْ رُكوبِ الهَديِ، وهو كلُّ ما يُهْدَى إلى البَيتِ منَ الأنْعامِ؛ قُربةً إلى اللهِ، فذكَرَ جابرٌ - رضي الله عنه - قَولَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم-: «اركَبْها بالمَعروفِ»، أي: بِوَجهٍ لا يَلحَقُها ضَررٌ، «إذا أُلْجِئْتَ» يعني: إذا اضطُررْتَ إلى رُكوبِها، «حتَّى تَجِدَ ظَهراً» أي: حتّى تجدَ مَركوباً آخَرَ منَ الدَّوابِّ غيرِ الهَديِ.
باب: ما عَطِبَ مِنَ الهَدْي قبل محله
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: أَنَّ ذُؤَيْبًا أَبَا قَبِيصَةَ حَدَّثَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَبْعَثُ مَعَهُ بِالْبُدْنِ، ثُمَّ يَقُولُ: «إِنْ عَطِبَ مِنْهَا شَيْءٌ؛ فَخَشِيتَ عَلَيْهِ مَوْتاً فَانْحَرْهَا، ثُمَّ اغْمِسْ نَعْلَهَا فِي دَمِهَا، ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ صَفْحَتَهَا، وَلَا تَطْعَمْهَا أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ». الحديث رواه مسلم في الحج (2/963) باب: ما يفعلُ بالهَدْي إذا عَطِب في الطّريق.
في هذا الحَديثِ يَرْوي أبو قَبيصةَ ذُؤيبُ بنُ حَلْحَلةَ الخُزاعيُّ - رضي الله عنه -: أنَّ رَسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - كان يَبعَثُ مَعه بالبُدْنِ- وهي الأنعامُ الَّتي تُهْدى إلى بيتِ اللهِ الحرامِ- ثُمَّ يقولُ لَه: «إنْ عَطِبَ مِنها شَيءٌ» أي: أصابه أمرٌ يمنعها من السّير، مِن كسرٍ أو مرَضٍ أو تعَبٍ يَغلِبُ معه هَلاكُها وموتُها قبْلَ وُصولِها إلى مَوضعِ الذَّبحِ.
قوله: «فانْحَرْها» واذْبَحْها في مَكانِها، «ثُمَّ اغمِسْ نَعْلَها» المُقلَّدَةَ بها في دَمِها، «ثُمَّ اضرِبْ» بهذا النَّعلِ المُلطَّخِ بالدَّمِ على صَفحتِها، أي: اجعَلِ النَّعلينِ على جانبِ سَنامِ البُدنِ؛ ليكونَ ذلك عَلامةً مَعروفةً؛ لكيْ يَعرِفَها مَن يمُرُّ بها، فمَن جاء بعْدَهم يَنظُرُ إليها ويَعرِفُ أنَّها هدْيٌ، وقد عَطِب، فيَأكُلُ منها دونَ حرَجٍ، فلا يَحسَبُها مَيتةً؛ وذلك أنَّ الطُّرقَ الَّتي يَسلُكُها النَّاسُ في أسفارِهم كانت مَعروفةً مِن قِبَلِ غيرِهم.
وأيضا: فإنَّ العادةَ الغالبةَ أنَّ ساكِنِي الصَّحراءِ -البَدْو- وغيرَهم، يَتَّتبعون مَنازلَ الحجيجِ لالتقاطِ ما خلَّفوه في أماكنِ راحتِهم.
قوله: «وَلا تَطعَمْها أنت ولا أَحدٌ مِن أهلِ رُفْقتِك» أي: لا يَأكُلْ منها الوكيل ولا أحدٌ ممّن معه، سَواءٌ كان فَقيراً أم غَنيّاً، وفي هذا قطْعُ الذَّريعةِ؛ لئلَّا يَتوصَّلَ بعضُ النَّاس إلى نحْرِ الهدْيِ، أو تَعييبِه قبْلَ أوانِه.
من فوائد الحديث
- التَّرغيبُ في بَعثِ الهَدايا إلى مكَّةَ، والتَّوكيلُ فيها إنْ لم يَذهَبْ بنفْسِه.
- والهَدْيُ: اسمٌ لِما يُهدى ويُذبَحُ في الحرَمِ مِن الإبلِ والبقَرِ والغنَمِ والمَعْزِ.
- جواز توكيل مَنْ يَقومُ بذبح بدنه.
- إنّ مَنْ بعثَ هدياً إلى الحرم، فعطب في الطريق قبل بلوغ محله، فلينحره ثم يصبغ نعله في دمه، ويضرب بالنّعل المصبوغ بالدم صفحة سَنامها؛ ليعلم من مرَّ بها أنّها هدي، فينتفع بها.
- عدمُ جَوازُ أكْلها للوكيل، ولا أحد مِنْ أهل رفقته، وجوازُ أكلها لسائر الناس إذا كانوا بصفة الاستحقاق.
الافتقار إلى الله -تعالى-
إن من أخص خصائص العبودية: الافتقار المطلق لله -تعالى-، فهـو «حقيقـة العبـودية ولبُّها»، قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (فاطر:15)، قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: «يخبر -تعالى- بغناه عما سواه، وبافتقار المخلوقات كلها إليه، وتذللها بين يديه قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ} أي: محتاجون إليه في جميع الحركات والسكنات وهو -تعالى- الغني عنهم بالذات؛ ولهذا قال -عز وجل-: {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} أي: هو المنفرد بالغنى وحده لا شريك له وهو الحميد في جميع ما يفعله ويقوله ويقدره ويشرعه».
وقال -تعالى- فـي قصة موسى -عليه الصلاة والسلام-: {فَقَالَ رَبِّ إنِّي لِـمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}(القصص: 24)، وقال -تعالى-: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد: 38)، وقال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (العنكبوت: 6).
عرَّف الإمام ابن القيم -رحمه الله- الافتقار إلى الله بقوله: «حقيقة الفقر: ألا تكون لنفسك، ولا يكون لها منك شيء؛ بحيث تكون كلك لله، وإذا كنت لنفسك فثمَّ ملْك واستغناء مناف للفقر». ثم قال: «الفقر الحقيقي: دوام الافتقار إلى الله في كل حال، وأن يشهد العبد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقـة تامـة إلى الله -تعالى- من كل وجه».
فالافتقار إلى الله -تعالى- أن يُجرِّد العبد قلبه من كل حظوظها وأهوائها، ويُقبل بكليته إلى ربه -عـز وجل- متذللاً بين يديه، مستسلماً لأمره ونهيه، متعلقاً قلبه بمحبته وطاعته، قال الله -تعالى-: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام).
والمتأمل في أنواع العبادة القلبية والعملية يرى أن الافتقار فيها إلى الله هو الصفة الجامعة لها، فبقدر افتقار العبد فيها إلى الله، يكون أثرها في قلبه، ونفعها له في الدنيا والآخرة، وحسبك أن تتأمل في الصلاة أعظم الأركان العملية، فالعبد المؤمن يقف بين يدي ربه في سكينة، خاشعاً متذللاً، خافضاً رأسه، ينظر إلى موضع سجوده، يفتتحها بالتكبير، وفي ذلك دلالة جليَّة على تعظيم الله -تعالى- وحده، وترك ما سواه من الأحوال والديار والمناصب. وأرفع مقامات الذلة والافتقار أن يطأطئ العبد رأسه بالركوع، ويعفِّر جبهته بالتراب مستجيراً بالله منيباً إليه؛ ولهذا كان الركوع مكان تعظيم الله -تعالى-، وكان السجود مكان السؤال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «فأما الركوع فعظّموا فيه الرب -عز وجل-، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقَمِنٌ أن يستجاب لكم»؛ ولهذا كان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في ركوعه: «اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت. خشع لك سمعي، وبصري، ومخي، وعظمي، وعصبي».
لاتوجد تعليقات