
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: تَقبيلُ الحَجَر الأسْود في الطّواف
- الحديث يدلّ على كراهة تَقبيل ما لمْ يرد الشّرع بتقبيله أمّا تقبيلُ يد الأبوين احْتراماً لهما وبرّاً بهما فهو مُسْتحب وكذا مَنْ في حُكْمهما مِنَ العُلماء والصّالحين
- في الحديث قاعدةٌ عظيمةٌ في اتِّباعِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيما يَفعَلُه ولو لم تُعلَمِ الحِكْمةُ فيه وأنَّ الشَّرعِ فيه ما هو تَعبُّدٌ مَحضٌ وما هو مَعقولُ المَعنى
عَنْ عبداللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ قَالَ: رَأَيْتُ الْأَصْلَعَ- يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- يُقَبِّلُ الْحَجَرَ، ويَقُولُ: «واللَّهِ، إِنِّي لَأُقَبِّلُكَ، وإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، وأَنَّكَ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، ولَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَبَّلَكَ؛ مَا قَبَّلْتُكَ». الحديث رواه مسلم في الحج (2/925) باب: اسْتحباب تقبيل الحجر الأسود في الطّواف، وعبدالله بن سَرْجس هو المُزني، الصّحابي المُعمّر نزيل البَصرة، مِنْ حلفاء بني مخزوم.
يقول: «رَأَيْتُ الْأَصْلَعَ -يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ-» الأصْلع، يعني عمر - رضي الله عنه -، وفي رواية: الأصيلع، فيه: أنّه لا بأسَ بِذكرِ الإنْسان بلقبه، أو وصفه الذي لا يَكرهه، «يُقَبِّلُ الحَجَرَ» فعُمَرَ بنَ الخطَّابِ - رضي الله عنه - كانَ يُقَبِّلُ الحَجَرَ الأسوَدَ، وهو الموجودُ في البَيتِ الحَرامِ، ومَكانُه في الرُّكنِ الجَنوبيِّ الشَّرقيِّ لِلكعبةِ المُشرَّفةِ مِنَ الخارِجِ، وهو في غِطاءٍ مِنَ الفِضَّةِ في أيَّامِنا هذه.وإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَر
قوله: «واللَّهِ، إِنِّي لَأُقَبِّلُكَ، وإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، وأَنَّكَ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ» فأوْضَحَ عُمرُ - رضي الله عنه - أنَّ سَببَ تَقبيلِه لهذا الحجرِ، هو رُؤيَتُه النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُقبِّلُه، ولَولا ذلك؛ ما قَبَّلَه عُمَرُ - رضي الله عنه -؛ لِعِلْمِه أنَّه حَجَرٌ لا يَضُرُّ ولا يَنفَعُ بذاتِه، وإنَّما النَّفعُ بالثَّوابِ الذي يَحصُلُ باتّباع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، والاستِنانِ بتَقبيلِه له، وعن سُوَيدِ بنِ غَفَلةَ، قال: رأيتُ عُمَرَ قبَّل الحَجَرَ والتَزَمَه، وقال: «رأيتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بك حفِيّاً». رواه مسلم.لماذا قال عمر - رضي الله عنه - ذلك؟
وقيل: إنَّما قال عُمَرُ ذلك؛ لأنَّ النَّاسَ كانوا حَديثي عَهدٍ بعِبادةِ الأصنامِ، فخَشيَ أنْ يَظُنَّ الجُهَّالُ أنَّ استِلامَ الحَجَرِ، هو مِثلُ ما كانتِ العَربُ تَفعَلُه في الجاهليَّةِ، فأرادَ أنْ يُعلِّمَهم أنَّ استِلامَ الحَجَرِ لا يُقصَدُ به إلَّا تَعظيمُ اللهِ -تعالى-، والوُقوفُ عِندَ أمرِ نَبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّ ذلك مِنْ شَعائرِ الحَجِّ. ولأنَّ اللهَ -تعالى- فضَّلَ بعضَ الأحْجارِ على بعضٍ، وبعضَ البِقاعِ على بعضٍ، وبعضَ اللَّيالي والأيامِ على بعضٍ، وإنَّما شُرِعَ تَقبيلُ الحَجَرِ إكرامًا وإعظامًا لحَقِّه، ولِيُعلَمَ بالمُشاهَدةِ مَن يُطيعُ في الأمرِ والنَّهيِ، وذلك شَبيهٌ بقصَّةِ إبليسَ حيثُ أُمِرَ بالسُّجودِ لآدمَ عليه السَّلامُ. وكُلُّ ما قالَه عُمَرُ هنا إنَّما هو لِبَيانِ أنَّ أمرَ الدِّينِ مَبنيٌّ على التَّصديقِ والاتِّباعِ، وليس كَلامُه اعتِراضاً على أفْعالِ المَناسِكِ؛ ولذلك استدرَكَ على نَفْسِه، فقال: شَيءٌ فَعَلَه رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فلا نُحِبُّ أنْ نَترُكَه، بل علينا أنْ نَتَّبِعَه.فوائد الحديث
1- الحَجَرُ الأسوَدُ حَجَرٌ كرِيمٌ، أنزَلَه اللهُ -سُبحانَه وتعالَى- مِنَ الجنَّةِ، فقد روى البيهقي في السنن، والطبراني في الكبير واللفظ له: عن ابن عباس - رضي الله عنه -ما، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «الحَجَرُ الأسْود مِنْ حَجارة الجنّة، وما في الأرْض مِنَ الجنّة غيره، وكان أبيض كالمَهَا، ولولا ما مسّه مِنْ رِجْس الجاهلية، ما مسَّه ذُو عَاهة إلا برئ». 2- كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُقبِّلُه؛ واتِّباعاً لهَدْيِه نُقبِّلُه ونَستلِمُه، ونُشيرُ إليه، وإنْ كان حَجَرًا لا يَضُرُّ ولا يَنفَعُ. 3- فإنْ لمْ يُمكنه أنْ يَسْتلمه أو يُقبّله مِنَ الزّحام، أشار إليه بيده، فعن أبي الطُّفَيلِ - رضي الله عنه - قال: «رأيتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَطُوف بالبيتِ، ويستلِمُ الرُّكْنَ بمِحْجَنٍ معه، ويقبِّلُ المِحْجَنَ». رواه مسلم، وفيه دليل: على اسْتحباب استلام الحَجَر الأسود في الطّواف، وأنّه إذا عَجَز عن اسْتلامه بيده، بأنْ كان راكباً أو غيره، اسْتلمه بعَصَا ونحوها، ثمّ قَبّلَ ما استلم به. 4- وكما أنّ فيه مَشروعيَّةُ تَقبيلِ الحَجَرِ الأسوَدِ، ففيه الإشارةُ إلى النَّهيِ عن تَقبيلِ ما لمْ يَرِدِ الشَّرعُ بتَقبيلِه مِنَ الأحجارِ وغيرِها، فعن عبداللهِ بنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عنهما- أنَّه قال: «لمْ أرَ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ مِنَ البيت، إلَّا الرُّكْنينِ اليَمَانِيَّينِ». متفق عليه، فلا يُشرع تَقبيل شيءٍ مِنَ البَيتِ الحَرام، ولا غيره في المَسْجد كالمقام ونحوه؛ لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لمْ يفعله، ولا أصْحابه.قاعدةٌ عظيمةٌ في الاتِّباعِ
5- وفيه قاعدةٌ عظيمةٌ في اتِّباعِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيما يَفعَلُه، ولو لم تُعلَمِ الحِكْمةُ فيه، وأنَّ الشَّرعِ فيه ما هو تَعبُّدٌ مَحضٌ، وما هو مَعقولُ المَعنى، قال الخطابي: فيه تَسْليمُ الحكمة، وتَرْك طلب العِلل، وحُسن الاتباع فيما لمْ يُكشف لنا عنه منَ المعنى، وأمور الشّريعة على ضربين: ما كُشِفَ عن عِلّته، وما لمْ يكشف، وهذا ليسَ فيه إلا التّسليم. انتهى. فكثيرٌ مِنْ مناسك الحج تعبّدي، لا يَخضع للتّحكيم العَقْلي، ولا تُدْرك عِلّته، وقد شاء الله -تعالى- أنْ يكون الشّرعُ الإسْلامي في أغلب أحْكامه مُعلّلاً، يَحْكم العقل بفائدته والدوافع إليه، وشاء الله بحكمته أنْ يختبرَ المُسْلم في بعضها؛ بطلبِ الطّاعة فيما لا يُدرك حِكمته؛ ليظهر مَدَى الاسْتجابة للأوامر والنّواهي، باعتبارها صادرة من الله -تعالى- فحَسب، بل قد يرفضُ العَقلُ الفعلَ المَطلوب، ولا يقبله ولا يَسْتسيغه، لكنّه إذا تحقق أنّه مَطلب المشرع؛ لزِمَ التّسْليم والاسْتجابة، وهذا هو قمة العبادة والخضوع، والطاعة المشرع، وكانت خطيئة إبليس، أنه سقط في هذا الامتحان؛ إذْ أُمِر بالسجود لآدم -عليه السلام- فاعتَرضَ بعقله على أمْرِ الله -عز وجل. 6- وفيه: بَيانٌ لِتَسليمِ الصَّحابةِ واتباعهم، وقوةِ إيمانِهم. 7- وفيه: أنّ بَيانُ السُّنَنِ يكونُ بالقَولِ، ويكون بالفِعلِ. 8- وفيه: أنَّ على الإمامِ إذا خَشِيَ فَسادَ اعتِقادِ أحدٍ، بسَببِ فِعلٍ ما، أنْ يُبادِرَ إلى بَيانِ الأمْرِ وتَوضيحِه.الاقتداء برسُول الله - صلى الله عليه وسلم
9- وفيه: أنّ المُسلمين يَقْتدُون برسُول الله - صلى الله عليه وسلم - في مَسْحهم بأيديهم الرّكنَ اليماني مِنَ الكعبة في الطّواف، وتقبيلهم الحَجَر الأسود ومَسْحه، أو استلامه ولو بِعَصا، هم يُؤمنُون بأنّ هذه الجَمَادات مَخلوقة كبقيّة المَخلوقات، وهُم حين يُعظّمُونها، إنّما يُعظّمُون أمَرَ الله، فالتّعظيم إذاً لله -تعالى- وأمْره، وصَدق الله العظيم؛ إذْ يقول: {ومنْ يُعظّم شَعائرَ الله فإنّها مِنْ تقوى القلوب} (الحج:32)، فلا يُعظمُونها لتقرّبهم إلى الله زُلْفى كما كان المُشْركون يَعبُدُون الأصْنام، فالأحْجار لا تقرّبُ إلى الله زُلفى في عقيدة المُسلمين، وإنّما اتّباع الأوامر أيّاً كانت، هي التي تُقرّبُ إلى الله زُلفى.فضل الحجر الأسود
10- وممّا جاء في فضل الحجر الأسود: حديثُ عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في الحَجَرِ: «واللهِ ليبعثنَّه اللهُ يومَ القيامةِ، له عَينانِ يُبْصرُ بهما، ولِسانٌ يَنْطقُ به، يشهدُ علَى مَنْ استلمَه بحقٍّ». أخرجه الترمذي (961) واللفظ له، وابن ماجة (2944)، وأحمد (2215) وصححه الألباني. فقوله: «يَشهَدُ على مَن استلَمه بحقٍّ»، أي: مَنْ أشار إليه أو قبَّله بحَقٍّ، والحقُّ ما كان يفعَلُه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالإخْلاصِ، والتَّعبُّدِ للهِ -عز وجل-، ولا يكونُ استِلامُه بقصْدِ الرِّياءِ، أو بتَعظيمٍ وتقديسٍ للحجَرِ نفْسِه. 11- استدلّ بعضُهم بهذه الأحاديث، على مَشْروعيّة تقبيل الأمَاكن الشريفة وتقبيل المُصْحف وكتُب الحديث وغيرها، بقَصْد التّعْظيم والتّبرّك، وكذلك تقبيل أيدي الصّالحين، ويرون أنّ ذلك حَسَنٌ مَحْمود؛ باعتبار القَصْد والنيّة. والتحقيق: منع تقبيل ما لمْ يَرد الشّرْع بتقبيله مِنَ الأحْجار والأماكن وغيرها، بقصد التّبرّك، والاقتصار في ذلك على ما ورد الشّرع به، ليكون الدافع هو الاسْتجابة لأمر الشرع فحسب، بل الحديث يدلّ: على كراهة تَقبيل ما لمْ يرد الشّرع بتقبيله، أمّا تقبيلُ يد الأبوين احْتراماً لهما، وبرّاً بهما؛ فهو مُسْتحب، وكذا مَنْ في حُكْمهما، مِنَ العُلماء والصّالحين.
لاتوجد تعليقات