شرح كتاب الحج من صحيح مسلم .. باب: تَحْريمُ المَدينة وَصَيْدها وشَجَرها والدُّعاء لها
- جعَلَ اللهُ عزَّوجلَّ لمَكَّةَ والمدينةِ مَنزلةً تَفوقُ غيرَهما مِنَ الأماكنِ والمنازلِ لما فيهما منَ المقَدَّساتِ الإسْلاميَّةِ
- تحريم مكة يعني أنْ يَأمَنَ فيها كلُّ شَيءٍ على نفْسِه حتَّى الحيوانُ فلا يُصادُ وحتَّى الشَّجرُ فلا يُقطَعُ إلَّا ما يَزرَعُه الآدميُّ بنفْسِه وألَّا يُحدِثَ فيها إنسانٌ حَدَثًا يُخالِفُ دِينَ اللهِ أو جُرماً أو ظُلماً أو يَقترِفَ حَدّاً
- المَدينةُ زادَها اللهُ -تعالى- شَرفًا بيْنَ حَرَّتينِ في جانَبيِ الشَّرقِ والغَربِ، والحَرَّةُ الشَّرقيَّةُ تُسمّى: حَرَّةُ واقِمٍ، وبها قُباءُ وحِصنُ واقِمٍ، والحرَّةُ الغربيَّةُ هي حَرَّةُ وَبَرةَ، وبها المَسجِدُ المُسمَّى بمَسجِدِ القِبلتَينِ
في الباب ستة أحاديث، رواها مسلم في الحج (2/991) باب: فَضل المدينة ودُعاء النّبي - صلى الله عليه وسلم - فيها بالبَركة، وبيان تحريمها وتَحريم صَيدها وشجرها، وبيان حدود حرمتها.
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، ودَعَا لِأَهْلِها، وإِنِّي حَرَّمْتُ المَدِينَةَ، كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وإِنِّي دَعَوْتُ فِي صَاعِها وَمُدِّهَا؛ بِمِثْلَيْ مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ لِأَهْلِ مَكَّةَ»، في هذا الحَديثِ يُخبِرُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأنَّ إبراهيمَ -عليه السلام- حرَّمَ مكَّةَ بِتَحريمِ اللهِ، ودَعا لَها، كما في قَولِه -تعالى-: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (البقرة: 126). قال النووي: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ إبْراهيم حَرّم مكة» هذا دليل لمن يقول: إنّ تحريم مكة إنّما هو كان في زَمَن إبراهيم - عليه السلام -، والصّحيح: أنّه كان يوم خلق الله السماوات والأرض.تحريم إبراهيم -عليه السلام- لمكة وذكروا في تحريم إبراهيم -عليه السلام- احتمالين:
- أحدهما: أنّه حرّمَها بأمْر الله -تعالى- له بذلك؛ لا باجتهاده، فلهذا أضاف التّحريم إليه تارة، وإلى الله -تعالى- تارة.
- والثاني: أنّه دعا لها فحرّمها اللهُ -تعالى- بدعوته، فأضيف التّحريم إليه لذلك. انتهى.
- أحدهما: أنّه يَحتمل أنّ حديث النُّغَير كان قبل تَحْريم المدينة.
- والثاني: يحتمل أنّه صادَه مِنَ الحِلّ لا مِنْ حَرَم المدينة، وهذا الجواب لا يلزمهم على أصُولهم؛ لأنّ مَذهب الحنفية: أنّ صَيد الحل إذا أدخله إلى الحَرَم؛ ثَبتَ له حُكم الحَرَم، ولكنْ أصلهم هذا ضعيف، فيرد عليهم بدليله. انتهى.

الحديث الثاني
عن سَعْدٍ بن أَبِي وقاص قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ، أَنْ يُقْطَعَ عِضَاهُهَا، أَوْ يُقْتَلَ صَيْدُهَا». وقَالَ: «المَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ، لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، لَا يَدَعُهَا أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْها؛ إِلَّا أَبْدَلَ اللَّهُ فِيهَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، ولَا يَثْبُتُ أَحَدٌ عَلَى لَأْوَائِهَا وجَهْدِهَا، إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعاً، أَوْ شَهِيداً يَوْمَ الْقِيَامَةِ». في هذا الحَديثِ يَقولُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنِّي أُحرِّمُ ما بيْنَ لَابَتَيِ المدينةِ» أي: أنَّها حرَمٌ آمِنٌ، فيَأمَنُ فيها كلُّ شَيءٍ، واللَّابَتانِ: تَثْنيةُ لَابَةٍ، واللَّابَةُ: هي الحَرَّةُ، وهي أرضٌ ذاتُ حِجارةٍ سَوداءَ كأنَّها أُحرِقَتْ بالنَّارِ، فالمَدينةُ زادَها اللهُ -تعالى- شَرفًا بيْنَ حَرَّتينِ في جانَبيِ الشَّرقِ والغَربِ، والحَرَّةُ الشَّرقيَّةُ تُسمّى: حَرَّةُ واقِمٍ، وبها قُباءُ وحِصنُ واقِمٍ، والحرَّةُ الغربيَّةُ هي حَرَّةُ وَبَرةَ، وبها المَسجِدُ المُسمَّى بمَسجِدِ القِبلتَينِ. وحُدودُها مِن جِهةِ الجَنوبِ والشَّمالِ: ما بيْنَ جَبَلَيْ عَيْرٍ وثَوْرٍ، فحَدُّ الحرَمِ النَّبويِّ ما بيْنَ جَبلِ عَيْرٍ جَنوبا، ويَبعُدُ عنِ المسجدِ النَّبويِّ (8,5 كم)، وجَبلِ ثَوْرٍ شَمالًا، ويَبعُدُ عنِ المسجِدِ النَّبويِّ (8كم)، ثُمَّ بيَّنَ - صلى الله عليه وسلم - المَنْهيَّ عنهُ في تلكَ الحُدودِ، هو عدَمِ قَطعِ العَضاهِ، وهوَ كُلُّ شَجرٍ فيه شَوْكٌ، وعدمِ صَيدِ الحَيواناتِ والطُّيورِ بِها؛ فهيَ مَحْميَّةٌ في تلكَ الحُدودِ.قَوله: «المَدينةُ خيرٌ لَهم لو كانوا يَعلَمونَ»
فيه إعلَامُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ببَعضِ فَضائلِ المدينةِ، وقدْ قال ذَلكَ في ناسٍ سَيَترُكونَ المَدينةَ، فالمَدينةُ خيْرٌ لأُولئكَ التَّاركينَ لَها؛ مِن تلكَ البلادِ الَّتي يَترُكونَ المَدينةَ لأَجْلِها، ثُمَّ بيَّنَ أنَّه لا يَدَعُها ويَترُكُها أحدٌ ممَّنِ استَوْطَنَها رَغْبةً عنْها، أي: كَراهةً لَها، أو رَغبةً عن ثَوابِ السَّاكنِ فيها، إلَّا أبْدَلَ اللهُ في المَدينةِ مَن هوَ خيْرٌ مِنه، بمَولودٍ يُولَدُ فيها، أو بمُنتقِلٍ يَنتقِلُ إليها مِن غَيرِها من البلاد. ثُمَّ أخبَرَ أنَّه لا يَثبُتُ أحدٌ، فيَصبِرُ عَلى لأْوَائِها -وهوَ الشِّدَّةُ والجُوعُ- «وجَهدِها» أي: مَشقَّتِها؛ إلَّا كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - شَفيعاً، أو شَهيداً له يومَ القِيامةِ، ويَحتمِلُ أنْ يكونَ المَعنى: أنَّ الرَّسولَ - صلى الله عليه وسلم - يَكونُ شَهيداً لبَعضِ أَهلِ المَدينةِ، وشَفيعاً لبَقيَّتِهم، أو يَكونُ شَفيعاً للعاصِينَ، وشَهيداً للمُطيعينَ، أو شَهيداً لِمَن ماتَ في حَياتِه، وشَفيعاً لِمَن ماتَ بعدَه، أو تَكونُ (أو) هُنا بمَعنى الواوِ، ويَكونُ المَعنى: أنَّه يَكونُ شَفيعاً وشَهيداً لَهم. وهَذه خُصوصيَّةٌ لأهل المدينة، وهي غير الشَّفاعةِ للمُذْنِبينَ، أو للعالَمينَ فِي القِيامةِ، وَعلى شَهادتِه عَلى جَميعِ الأُمَّةِ.فوائد الحديث
- أنّ اللهُ -عزَّوجلَّ- جعَلَ لمَكَّةَ والمدينةِ مَنزلةً تَفوقُ غيرَهما مِنَ الأماكنِ والمنازلِ؛ لما فيهما منَ المقَدَّساتِ الإسْلاميَّةِ، مثلِ البَيتِ الحرامِ في مكَّةَ، والمسجِدِ النَّبويِّ في المدينةِ.
- بيانُ أهمِّيَّةِ المدينةِ النَّبويَّةِ، وشِدَّةِ حُرمتِها، وفضل السُّكنى فيها.
لاتوجد تعليقات