
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: الطواف بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ … وقوله -تعالى-: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} البقرة: 158.
- الحَجُّ عِبادةٌ تَوقيفيَّةٌ عَلَّمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه إيَّاها بالفِعلِ والقَولِ وقد نَقَلوا لنا صِفةَ هذه العِبادةِ كما رَأوْها وأدَّوْها معه صلى الله عليه وسلم ورَضيَ اللهُ عنهم
- الحَديثُ يُوضِّحُ جانباً مِن جَوانبِ حجِّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في حَجَّةِ الوَداعِ فَقد كانَ قارنًا بيْنَ الحجِّ والعُمرةِ لأنَّه كانَ معَه الهَديُ ولِذلكَ سَعَى هو ومَنْ كان مثله سَعياً واحدًا
عن عُرْوَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ -رضي الله عنها-: مَا أَرَى عَلَيَّ جُنَاحًا، أَنْ لَا أَتَطَوَّفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؟ قَالَتْ: لِمَ قُلْتُ؟ لِأَنَّ اللَّهَ -عز وجل- يَقُولُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الْآيَةَ، فَقَالَتْ: لَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ، لَكَانَ: فلا جناح عليه أن لا يطوّف بهما، إِنَّمَا أُنْزِلَ هَذَا فِي أُنَاسٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، كَانُوا إِذَا أَهَلُّوا أَهَلُّوا لِمَنَاةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَطَّوَّفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا قَدِمُوا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِلْحَجِّ، ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ -تعالى- هَذِهِ الْآيَةَ، فَلَعَمْرِي، مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ مَنْ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.
الحديث أخرجه مسلم في الحج (2/928) باب: بيان أنّ السّعي بين الصّفا والمروة ركنٌ لا يصح الحجّ إلا به، وقد أخرجاه في الصحيحين مطولاً: عن عُروة قلت: أرأيتِ قول الله -تعالى-: {إنّ الصّفا والمروة مِنْ شعائر الله فمَنْ حجّ البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه أنْ يطوّف بهما} قلت: فوالله، ما على أحدٍ جُناحٌ ألا يطوف بهما، فقالت عائشة: بئسما قلت يا ابنَ أخْتُي! إنّها لو كانت على ما أوّلتها عليه، كانت: فلا جناح عليه ألا يطّوف بهما، ولكنها إنّما أنزلت أن الأنصار كانوا قبل أنْ يُسْلموا كانوا يُهلّون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المُشلّل، وكان مَنْ أهلّ لها، يتحرّجَ أنْ يطوّف بالصّفا والمَروة، فسألوا عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا رسُول الله، إنا كنّا نتحرّج أنْ نطوف بالصّفا والمروة في الجاهلية، فأنزلَ الله -عز وجل-: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّه} إلى قوله: { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} قالت عائشة: «ثمّ قد سنّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الطّوافَ بهما، فليس لأحَدٍ أنْ يَدعَ الطّواف بهما». وروى البخاري (1648) أيضًا: عن عاصم بن سليمان قال: قُلتُ لأنَسِ بنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه -: أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ السَّعْيَ بيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ؟ قالَ: نَعَمْ، لأنَّهَا كَانَتْ مِن شَعَائِرِ الجَاهِلِيَّةِ حتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (البقرة: 158). وفي صحيح مسلم: من حديث جابر الطويل، وفيه: أنّ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - لمّا فَرَغَ مِنْ طَوافه بالبيت، عاد إلى الرُّكن فاسْتَلمه، ثمّ خَرَج منْ بابَ الصّفا، وهو يقول: {إنّ الصّفا والمَرْوة منْ شعائر الله} ثُمّ قال: «أبْدَأ بما بَدَأ الله به». وفي رواية النسائي: «ابْدؤوا بمَا بَدَأ اللهُ به»، فكلُّ هذه الأحاديث وغيرها، دلّت على مَشْروعية السّعي بين الصّفا والمروة.وجوب السعي على الحاج
وفي حَديثِ الباب: يَروي التَّابِعيُّ عُروةُ بنُ الزُّبَيرِ أنَّه سَألَ خالتَه أُمَّ المُؤمِنينَ، عائِشةَ -رضي الله عنها-، عن مَعنى قَولِ اللهِ -عز وجل-: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (البقرة: 158)؛ حيثُ فَهِمَ منها أنَّ السَّعيَ غَيرُ واجِبٍ على الحاجِّ، فأجابَتْه بأنَّه قد أخطَأ في فَهمِه، وأنَّ الآيةَ أُنزِلَتْ في الأنْصارِ؛ حيثُ كانوا قَبلَ أنْ يُسلِموا، يَحُجُّونَ لِصَنمٍ يُسَمَّى: مَناةَ، عِندَ المُشَلَّلِ، وهو جَبلٌ بَينَ مَكَّةَ والمَدينةِ، يُهبَطُ منه إلى قُدَيْدٍ، فكان مَنْ حَجَّ مِنَ الأنصارِ بعد الإسْلام، يَرى أنّ في السَّعيِ بَينَ الصَّفا والمَروةِ إثمًا عَظيما؛ لأنَّهما كان فيهما صَنمانِ يَعبُدُان منْ دون الله، وهما إسافٌ ونائِلةُ، وكانوا يَكرَهونَهما. فلَمَّا أسلَموا سَألوا رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَن ذلك، فأنزلَ اللهُ -تعالى- هذه الآيةَ، فبَيَّنَ لهم أنَّه لا إثمَ عليهم في السَّعيِ بَينَ الصَّفا والمَروةِ، كما كانوا يَظُنُّونَ؛ لأنَّ السَّعيَ بَينَهما مِن شَعائرِ اللهِ، أيْ: مِن مَناسِكِ الحَجِّ والعُمرةِ، وقال الزُّهريُّ: ثمّ أخبَرتُ أبا بَكرِ بنَ عبدالرَّحمنِ بحَديثِ عائِشةَ، فأعجَبَه ذلك، وقال: إنَّ هذا لَعِلْمٌ، أيْ: إنَّ كلامَ عائِشةَ -رضي الله عنها- لَعِلْمٌ ما كُنتُ سَمِعتُه. ثمّ بَيَّنَ أنَّه سَمِعَ رِجالًا مِن أهلِ العِلمِ قالوا بغَيرِ الذي قالَتْه عائِشةُ -رضي الله عنها-، فإنَّهم لم يَخُصُّوا سَبَبَ نُزولِ الآيةِ بطائِفةٍ واحِدةٍ، وهي الأنصارُ الذين كانوا يَتحرَّجونَ مِنَ الطَّوافِ بَينَ الصَّفا والمَروةِ، بل ذَكَروا طائِفةً أُخرى عَكْسَها، مِمَّن كان يُهِلُّ بمَناةَ، فكانوا يَطوفونَ كُلُّهم بالصَّفا والمَروةِ ولا يَتحرَّجونَ، فلَمَّا ذَكَرَ اللهُ -تعالى- الطَّوافَ بالبَيتِ ولم يَذكُرِ الصَّفا والمَروةَ في القُرآنِ، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، كنَّا نَطوفُ بالصَّفا والمَروةِ في الجاهليَّةِ، وإنَّ اللهَ أنزَلَ في القُرآنِ الطَّوافَ بالبَيتِ، فلم يَذكُرِ الصَّفا والمَروةَ، فهل علينا مِن إثْمٍ أنْ نَطوفَ بالصَّفا والمَروةِ؟ وإنَّما سَألوا عن ذلك بِناءً على ما ظَنُّوه مِن أنَّ التَّطوُّفَ بِهما مِن فِعلِ الجاهليَّةِ، فأنزَلَ اللهُ -تعالى-: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}، قال أبو بَكرٍ: فأسمَعُ هذه الآيةَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} نزَلَتْ في الفَريقَيْنِ كِلَيْهما، في الأنصارِ الذين كانوا يَتحرَّجونَ، وقَومٍ مِنَ العَربِ الذين كانوا يَطوفونَ ثم تَحرَّجوا أنْ يَطوفوا بهما في الإسلامِ.فوائد الحديث
1- مشروعية السّعي بين الصفا والمروة، وأنّه مِنْ شعائر الله في الحجّ والعمرة. 2- أهميَّةُ تَدارُسِ العِلمِ بَينَ العُلَماءِ وتَلاميذِهم؛ لِتَصويبِ المَفاهيمِ الخَطَأِ، وبيان الحقّ منَ الباطل. 3- الحَجُّ عِبادةٌ تَوقيفيَّةٌ، عَلَّمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه إيَّاها بالفِعلِ والقَولِ، وقد نَقَلوا لنا صِفةَ هذه العِبادةِ كما رَأوْها وأدَّوْها معه - صلى الله عليه وسلم -، ورَضيَ اللهُ عنهم.باب: الطَّوافُ بالصَّفَا والمَرْوة سُبْعاً واحداً
عن جَابِرِ بْنِ عبداللَّهِ - رضي الله عنه - قال: لَمْ يَطُفْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ولَا أَصْحَابُهُ بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ إِلَّا طَوَافًاً وَاحِدًا. الحديث رواه مسلم في الحج (/930) باب: بيان أنّ السّعي لا يُكرّر. يقولَ جابرُ بنُ عبداللهِ -رَضيَ اللهُ عنهما-: «لم يَطُفِ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ولا أَصْحابُه بيْنَ الصَّفا والمَروةِ إلَّا طوافًا واحدًا». وفي رِوايةٍ زادَ: «طوافَه الأَوَّلَ» أي: إنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان قارنا، وكذا مَن كان مَعَه كان قارناً، لم يَسعَوْا بيْنَ الصَّفا والمَروةِ إلَّا سَعياً واحداً، وهوَ السَّعيُ الَّذي كانَ معَ طَوافِ القُدومِ، والقارِنُ يَكْفيهِ طَوافٌ واحِدٌ، وسَعيٌ واحدٌ؛ لأنَّ أفْعالَ العُمرةِ تَندرِجُ في أفْعالِ الحجِّ.الَّذين تمتَّعوا بالعُمرةِ إلى الحجِّ
أمَّا الَّذين تمتَّعوا بالعُمرةِ إلى الحجِّ: فعليهم سَعْيانِ: سَعْيٌ لعُمرَتِهم، وسَعيٌ لحَجِّهم يومَ النَّحرِ، يُوضِّحُ ذلكَ ما رَواه البُخاريُّ -واللَّفظُ له- ومُسلمٌ: عن عائشةَ -رضي الله عنها- قالتْ: «فطافَ الَّذينَ كانوا أَهلُّوا بالعُمرةِ بالبَيتِ وبينَ الصَّفا والمَروةِ، ثُمَّ حلُّوا، ثُمَّ طافوا طَوافًا آخرَ بعدَ أنْ رَجَعوا مِن منًى». أي: مَن كان مُتمتِّعًا، «وأمَّا الَّذين جَمَعوا الحجَّ والعُمرةَ» أي: مَن كان قارنًا «فإنَّما طافوا طَوافًا واحدًا».فوائد الحديث
1- الإِهْلالُ بالحج إمَّا أنْ يَكونَ إفْراداً، أو قِراناً، أو تمتُّعاً بالعُمرةِ إلى الحجِّ. 2- القارن يكفيه سعيٌّ واحد، كما في حديث الباب، إمّا أنْ يجعلَه بعد طواف القُدُوم، كما فعلَ النّبيّ -عليه الصلاة والسلام-، أو بعد طواف الإفاضة، أو بعد طواف الوداع، ولا يُعيد الطواف حينئذٍ. وأمّا المتمتع فإنّه يسَعى سعيين: سَعياً لعُمْرته، ثمّ سعياً آخر لحجّه يوم النّحر. 3- وفيه: تسمية السّعي طوافًا. 4- الحَديثُ يُوضِّحُ جانباً مِن جَوانبِ حجِّ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوَداعِ، فَقد كانَ قارنًا بيْنَ الحجِّ والعُمرةِ؛ لأنَّه كانَ معَه الهَديُ؛ ولِذلكَ سَعَى هو ومَنْ كان مثله سَعياً واحداً.
لاتوجد تعليقات