تعظيمُ العلوم العقليّة على حساب التزكية وأثر ذلك في الانحراف الفكريّ (2)
مازال الحديث موصولآً عن تعظيم البعض للعلوم العقلية وأثر ذلك على الانحراف الفكري حيث ذكر أن الاهتمام الزائد بهذه العلوم والانبهار بها جاء على حساب تزكية النفس ومما أدى إلى تهميشها واعتبارها سلوكاً شخصياً لاينبغي طرحه في المجالس ولا تحديث الناس به. صلاح القوة النظرية
وقد ذكر القرآن صلاح القوة النظرية العلمية والقوة الإرادية العملية في غير موضع كقوله {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (سورة التوبة:33)، فالهدى كمال العلم ودين الحق كمال العمل كقوله: {أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَار} (سورة ص:45)، وقوله: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} (سورة المجادلة:22)، وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (سورة فاطر:10).
وفي خطبة النبي صلى الله عليه وسلم : «إن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد»، لكن النظر النافع أن يكون في دليل؛ فإن النظر في غير دليل لا يفيد العلم بالمدلول عليه، والدليل هو الموصل إلى المطلوب والمرشد إلى المقصود، والدليل التام هو الرسالة. وكذلك العبادة التامة فعل ما أمر به العبد وما جاءت به الرسل، وقد وقع الخطأ في الطريقين من حيث: أخذ كل منهما أو مجموعهما مجردا في الابتداء عن الإيمان بالله وبرسوله».
ولذلك تجد في القرآن الذم لمن سلك أحد الطريقين دون الآخر، فقد ذم الله اليهود لاهتمامهم بالعلم وترك العمل، كما ذم النصارى بغلوهم في العمل على حساب العلم، فسمى الأولين مغضوبا عليهم وسمى الآخرين ضالين كما هو قول جمهور المفسرين في الآية.
النَّزْوَةِ البشرية
وقد كشف القرآن عن النَّزْوَةِ البشرية في الاعتزاز بالعلوم والفرح بها، وترك الحق لأجلها فقال: {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون} (سورة غافر:83). قَالَ مُجَاهِدٌ: إن الكفار الذين فرحوا بما عندهم من العلم، قالوا: نحن أعلم منهم لن نعذب ولن نبعث. وقيل: فرح الكفار بما عندهم من علم الدنيا»، وأرشد إلى أن الاغتباط والفرح ينبغي أن يكون بالعلوم الإلهية كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون} (سورة يونس:58).
القرآن يُعْلِى من قيمة الوحي
كما أن القرآن يُعْلِي من قيمة الوحي على حساب الممتلكات الدنيوية، ويبين أن امتلاك الوحي بحد ذاته قيمة لا ينبغي الالتفات معها إلى أي عرض دنيوي، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيم ولاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِين} (سورة الحجر: 88:87).
البعد الغيبي والتوفيق الإلهي
فالمعظمون للذهنيات يغيب عنهم البعد الغيبي والتوفيق الإلهي الذي يصاحب البحث عن الحقيقة، كما يستبعدون معاني ضرورية شرعا في معرفة الحقيقة، كالتوكل والاستعانة بالله عز وجل، وغياب هذه المعاني عن حياة الباحث عن الحقيقة وممارسته العلمية سبب كل ضلال ومورد كل شر؛ ولذا تجد في القرآن من العقوبات الإلهية لغير الجادين في البحث عن الحقيقة صرف قلوبهم عن الحق، والطَّبْعِ عليها، ونفي استطاعة السمع قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِين} (سورة الأعراف:146)، وقال تعالى: {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُون} (سورة التوبة:87)، وقال تعالى: {أُولَـئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُون} (سورة هود:20).
خطرُ تعظيم الذِّهْنِيَّاتِ
ولا يخفى على القارئ بعد كل ما تقدم خطرُ تعظيم الذِّهْنِيَّاتِ على حساب الشرع، فلو لم يكن فيها إلا تغييب معانٍ شرعية مقصودة للشارع؛ كالتوكل والاستعانة والحرص على طلب الحق والإذعان لله عز وجل، لكان ذلك كافيا في وضعها في موضعها، فكيف وقد جَرَّ تعظيم الذِّهْنِيَّاتِ ويلات على أصحابه! كان من أبسطها اتسام عطائهم المعرفي بالحيرة والشك والتناقض، وعدم الانضباط العلمي، مع ما صاحَبَ ذلك من انحراف فكري وانقلاب معياري على جميع الأدوات المعيارية لفهم الكون والحياة.
لاتوجد تعليقات