عودة صادقة إلى القرآن
- إن الانطلاق من القرآن الكريم فهمًا وعملاً وتطبيقًا في شؤون الحياة كافة هو السبيل الوحيد لعز الأمة وبوابتها الواسعة لنيل الرفعة والظفر بالتمكين
- فَقِهَ الصحابة الكرام المقام الرفيع للقرآن فتلوه حق تلاوته وتدبروا معانيه وانطلقوا من توجيهاته واتبعوا أحكامه وتحاكموا إليه في أمورهم كلها
- نحن مطالبون أكثر من أي وقت مضى بعودة صادقة إلى القرآن الكريم إيماناً وتصديقاً وحفاوة وإجلالاً وتلاوة وحفظاً وتدبراً وفهماً
لا شك أن الابتعاد عن القرآن الكريم من أهم أسباب تراجع الأمة وما تعانيه اليوم من تخلف في كثير من النواحي، وإن الانطلاق من القرآن الكريم فهمًا وعملاً وتطبيقًا في شؤون الحياة كافة هو السبيل الوحيد لعزها، وبوابتها الواسعة لنيل الرفعة والظفر بالتمكين، ولن يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أمر أولها.
وقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الحقيقة وجلاَّها، حين قال: «تركتُ فيكم أَمْرَيْنِ لن تَضِلُّوا ما تَمَسَّكْتُمْ بهما: كتابَ اللهِ وسُنَّةَ نبيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأبان الباري عز وجل عاقبة الإعراض عن ذكره وعدم الاهتداء بنوره، فقال -تعالى-: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} (طه: ١٢٤ - ١٢٧)؛ حيث تكفل سبحانه لمن أقبل على كتابه وعمل به ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.المقام الرفيع للقرآن
وقد فقه الصحابة الكرام هذا المقام الرفيع للقرآن، فتلوه حق تلاوته، وتدبروا معانيه، وانطلقوا من توجيهاته، واتبعوا أحكامه، وتحاكموا في أمورهم كلها إليه، فسهَّل الله تعالى دربهم، وأنار سبيلهم، ووفقهم، وأعانهم، وأصلح بالهم، فتغيرت قلوبهم وعقولهم وأفعالهم، وصاروا سادة الدنيا وقادة الأرض، بعد أن شاعت في أوساطهم الفرقة والبغضاء وكثير من السلوكيات المشينة، قابعين على هامش من التاريخ، لا يأبه لهم أحد، وليس لهم بين الأمم حساب أو وزن.الصحابة والقرآن
حين نتأمل هدي الصحابة الكرام في التعامل مع القرآن، نرى عجبًا؛ فقد كان القرآن مرتكزهم ومحور حياتهم؛ فالتعظيم له كبير، والإقبال عليه شديد، والعيش معه طويل، والتأثر به والبكاء عند قراءته كثير، واتِّباعه والانطلاق منه وصناعة الحياة كلها وفق رؤيته أمر واقع، وقضية محسومة في حياة الصغير والكبير والفرد والمجتمع والدولة. يقول عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - مبيناً منهج الصحابة في تلقي القرآن: « كان الرجلُ منا إذا تعلَّم عشرَ آياتٍ لم يجاوزْهنَّ حتى يعرفَ معانيهن والعملَ بهن»، ويقول أبو عبدالرحمن السلمي: «حدثني الذين كانوا يقرئوننا: عثمان بن عفان وعبدالله بن مسعود وأُبَيُّ بن كعب -رضي الله تعالى عنهم -أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعا». وعن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: «كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قرئ عليهم القرآن كما نعتهم الله: تدمع أعينهم، وتقشعر جلودهم»، وعن أبي صالح قال: «لما قدم أهل اليمن في زمان أبي بكر فسمعوا القرآن جعلوا يبكون، فقال أبو بكر: هكذا كنا ثم قست القلوب»، ويقول أنس - رضي الله عنه -: «كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران يُعَدُّ فينا عظيماً»، وفي رواية: «جد فينا» أي: علت منزلته وعظمت.القرآن ربيع القلوب
وسِيَر الصحابة -رضوان الله عليهم- زاخرة بالشواهد على أن القرآن كان ربيع قلوبهم، ونور صدورهم، وجلاء أحزانهم، وذهاب همومهم؛ فهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - «كان خلقه القرآن»ـ وكان «يقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها»، ويقوم - صلى الله عليه وسلم - ليلة بآية يرددها حتى يصبح، ومرة يقوم الليل فيقرأ «البقرة وآل عمران والنساء في ركعة لا يمر بآية رحمة إلا سأل، ولا بآية عذاب إلا استجار». وهذا أبو بكر - رضي الله عنه - كان «رجلاً بَكَّاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن»، وهذا عمر - رضي الله عنه - كان كثير التلاوة لكتاب الله، شديد التأثر به، وهذا عثمان - رضي الله عنه - يقول: «لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لأكره أن يأتي عليَّ يوم لا أنظر في المصحف». وهذا ترجمان القرآن ابن عباس -رضي الله عنهما- كان يتهجد من الليل، فيقرأ الآية ثم يسكت طويلاً من أجل التأويل يفكر فيها، ثم يقرأ، وكان يقول: «لأن أقرأ البقرة في ليلة فأدَّبَّرها وأرتلها أحب إليَّ من أن أقرأ القرآن أجمعَ هَذْرَمَةً»، وهؤلاء أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لليلهم من قراءة القرآن دوي كدوي النحل.التسليم لأحكام القرآن
وهذا أنس - رضي الله عنه - يخبر أنه كان يدير الخمر قبل تحريمها على جمع من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى مالت رؤوسهم من أثرها، فينادي منادٍ: ألا إن الخمر قد حُرِّمَتْ قال: «فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج حتى أهرقنا الشراب وكسرنا القلال، وتوضأ بعضنا، واغتسل بعضنا، وأصبنا من طيب أم سُلَيْم، ثم خرجنا إلى المسجد». وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار، ولا أشد تصديقاً لكتاب الله، ولا إيماناً بالتنزيل، لقد أُنزِلت سورة النور {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (النور: ٣١) فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهن فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وكل ذي قرابته؛ فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان». فحالهم كما وصف الله: {وَإذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (المائدة: ٨٣)، إنها قراءة بتدبر بغرض تلمُّس التوجيه للانصياع له والعمل بما فيه.الإيمان قبل القرآن
ولذا فلم يُعرف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ القرآن في ليلة، بل قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث»، وكان ابن مسعود - رضي الله عنه - يقول: «إذا سمعتَ اللهَ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعِها سمعك؛ فإنه خير تؤمَر به أو شر تُنهى عنه»، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «ينبغي لحامل القرآن أن يُعرَف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون»، ووجدنا أئمة الهدى يشتد نكيرهم حين يرون غياب هذا النهج الراشد في التعامل مع القرآن.عودة صادقة إلى الكتاب العزيز
نحن مطالبون أكثر من أي وقت مضى بعودة صادقة إلى الكتاب العزيز، نجعل فيه القرآن في حياتنا أولاً: إيماناً وتصديقاً، حفاوة وإجلالاً، تلاوة وحفظاً، تدبراً وفهماً، خشوعاً وخضوعاً، اتباعاً وتطبيقاً، تحاكماً وتحكيماً، ذبّاً عنه ودعوة إليه، متى ما كنا نريد أن نأتي ربنا الكريم يوم لا ينفع مال ولا بنون بقلوب سليمة، ومتى ما كنا نريد لأمتنا عزة ورفعة، ونهوضاً وتمكيناً.الابتعاد عن القرآن سبب الذل والهوان
إن الابتعاد عن القرآن سبب الذل والهوان الذي تعاني منه أمتنا اليوم، وإن الانطلاق منه في الأمور كافة هو السبيل الوحيد النافذ أمامها للوصول لساحة العزة، وبوابتها الواسعة لنيل الرفعة والظفر بالتمكين، ولن يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أمر أولها.استثمار شهر رمضان
وها نحن أولاء اليوم في شهر رمضان المبارك، الشهر الذي أنزل الله تعالى فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، والذي يستحب فيه مدارسة القرآن والإكثار من تلاوته؛ ولذا يجدر بنا أن نستثمره في تعميق عودة صادقة إلى القرآن، فنعلِّم أنفسنا والناس تلاوته وتدبره وفقه معانيه، وننشر في الأمة المنهج الصحيح في التعامل معه، في كل وسط، ولكل أحد، كل بحسبه وفي الموقع الذي هو فيه، إن ربي لطيف لما يشاء، وهو على كل شيء حفيظ.
لاتوجد تعليقات