رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ عبد المنعم الشحات 18 مارس، 2014 0 تعليق

نظرية صدام الحضارات والمشاريع المنبثقة عنها (2)تاريخ الصدام بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية


 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: فهذه دراسة مختصرة لنظرية صدام الحضارات التي يتبناها الغرب الآن، وبيان لأهم المشاريع التي دشنها الغرب متأثراً بهذه النظرية، والتي تمثل أهم الأخطار التي تهدد العالم الإسلامي عموما، والصحوة الإسلامية خصوصا، ونستكمل في هذا العدد المقدمات التاريخية منذ بعثة النبى صلى الله عليه وسلم حتى احتلت هذه النظرية موقعها في قيادة الفكر الغربي.

5- مختصر تاريخ الصدام بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية

     جاء الإسلام بدعوة عبر عنها ربعي بن عامر رضي الله عنه في حواره مع رستم قائد الفرس بقوله: «إن الله ابتعثنا لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة» وواجه المسلمون الإمبراطورية الفارسية التي سقطت في عقر دارها فانتهى أمرها وتشتت شملها «عقوبة لملكهم الذي مزق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فمزق الله ملكه».

     ولم يبق أمام الفرس إلا تكوين (حركات باطنية) صفوية وصوفية، ولهذا قصة أخرى ليس هذا مجالها، بينما أخذت المواجهة مع الروم طابعا عسكريا محضا في بعض الأحيان، وضمت إليه الطابع الفكري في أحيان أخرى، وأنه في هذه الأحوال تمت الاستعانة بالحركات الباطنية ولو كانت ذات أصول شرقية للطعن في منهج الاسلام الصافي الذي يمثل أهم دعائم (الحضارة الإسلامية).

     ويطول بنا المقام لو أردنا أن نتتبع تاريخ الصراع بين المسلمين والروم، ولكن يمكن إيجازه في أن المسلمين الأوائل قد استطاعوا هزيمة الروم في مصر والشام؛ مما يعني إعادتهم إلى حدود وطنهم الأصلي، وهذا بخلاف الفرس الذين سقطوا في عقر دار دولتهم، ومنذ الفتح الإسلامي لمصر بدأت مراحل من الصراع لخصها الأستاذ محمود شاكر في رسالة (الطريق إلى ثقافتنا) في أربعة مراحل:

مرحلة غضب مكتوم ممزوج بخوف من الاقتراب من تخوم الإسلام.

مرحلة غضب متفجر مثمثلة في الحروب الصليبية «ولعل مما أسهم فى إغرائها بغزو ديار الاسلام ثم فى نجاحها فى بادئ الأمر سيطرت الحركات الباطنية على سواحل الشام».

مرحلة غضب مكتوم وخوف أشد بعد انكسار الحملات الصليبية.

     مرحلة فتح القسطنطينية وهي التي دفعت الغرب إلى تعلم علوم المسلمين وإلى إرسال المستشرقين؛ لأنهم شعروا أن وجودهم بوصفهم أمة صار ممهداً، وأيقنوا أن الحملات العسكرية لن تجدي نفعا، واعترفوا أنهم أمام حضارة فيها أسرار للقوة لابد من دراستها قبل المواجهة.

     ونتج عن المرحلة الرابعة التي ذكرها الأستاذ محمود شاكر أن نقل الغرب كل ما يستطيع من حضارة المسلمين، وشمل هذا العلوم التجريبية، كما شمل الكثير من النواحي التشريعية «ما تماشى منها مع ماديتهم»، وصادف هذا اغترار بالنصر في الدولة العثمانية، فضلا عن عوامل ضعف كثيرة جدا ، أدت إلى انهيار الدولة العثمانية وتوزيع تركتها على الدول الأوربية.

6- انهيار الدولة العثمانية ولعبة التقسيم

     مرت الدولة العثمانية بمراحل قوة ثم ضعف ثم انهيار، وكانت مرحلة القوة هي المرحلة التي واجهت تحديات النشأة وحماية بلاد الإسلام من خطر الصليبيين، وقطع آمالهم في العودة مرة أخرى، وفي تأديب الصفويين وفي إيقاف التفاف البرتغاليين بحرياً حول العالم الإسلامي ثم توج ذلك بفتح القسطنطينية، ومعها بدأت مراحل الضعف التي كان من أهم أسبابها:

زوال الدوافع التي كانت قاطرة مرحلة القوة.

ضعف العلم الشرعي في الدولة العثمانية وانتشار الطرق الصوفية.

إقدام الخلفاء على قتل إخوانهم لمنع النزاع على الخلافة و هو ظلم رأت الأمة عاقبته في إدالة أعدائها عليها

جمود حركة العلوم التجريبية.

مناوءة الفرسان لتحديث الجيوش العثمانية بالأسلحة النارية (البارود، الديناميت) التى كانت الفجوة فيها بين أوربا و الدولة العثمانية آخذة في الاتساع.

وثمة عوامل أخرى غاية في الأهمية، وهو تأثر الدولة العثمانية بالتيارات الفكرية الواردة من الغرب وأهمها الاعجاب بالنظام (الدستوري) والتأثر بنمط (الدولة القومية).

7- الاتحاد والترقي من مطالب (الدستور) إلى إلغاء الخلافة

     مع بداية دخول الصحافة إلى الدول العثمانية بدأت الصحف تنقل ما يدور من حركات إصلاح سياسي في أوروبا منذ الثورة الفرنسية، ومنها الدعوة إلى الدولة القومية، بوصفها بديلا للتوسع الإمبراطوري الذي كان سببا في حروب عدة داخلية فى أوروبا، ولكن هذه الدعوى لم تلق القبول الكافي في بداية الأمر؛ لأن الإمبراطورية العثمانية لم تكن تعاني مما تعانيه الإمبراطوريات الأوربية التي لا يمكن لواحدة منها أن تتوسع إلا على حساب الأخرى بينما كانت كل بلاد المسلمين تشعر بوحدة حقيقة.

     بينما لقيت الدعوة إلى إقامة حكم دستورى قبولا عاما لدى عامة المصلحين من أتراك وعرب، ومن هنا نشأت جمعية الاتحاد والترقي ونادت بالحكم الدستوري، ولكنها ضمت بين عناصرها دعاة للقومية التركية إلا أنهم تستروا بهذا الفكر فى بادئ الأمر و قد اتضح فيما بعد أن عددا غير قليل منهم على علاقة بالمخابرات الإنجليزية.

وقد استطاع هؤلاء أن يحققوا أحلامهم وصدر الدستور العثماني سنة 1908 وهي الخطوة التي عدها معظم الإصلاحيين في العالم الإسلامي إنجازاً عظيماً.

ولكن الاتحاديين الذين وصلوا إلى البرلمان والوزارة وفق الدستور الجديد قاموا بأمرين كان لهما أكبر الأثر في انهيار الدولة العثمانية :

- الأول: إظهار الدعوة إلى القومية التركية واحتقار العرب حتى المشاركين لهم في برلمان الخلافة ومنهم الشريف حسين الذي عين فيما بعد أميرا لمكة، فقام بالدعوة إلى القومية العربية وحارب الدولة العثمانية جنبا إلى جنب مع الإنجليز رد فعل لدعاة القومية التركية

- الثاني: أجبر الاتحاديون السلطان على دخول الحرب العالمية الأولى بجوار ألمانيا رغم أنه كان يسعه الوقوف على الحياد وهو الموقف الذي أخذته الدولة العثمانية من الحروب الأوربية التي سبقت الحرب العالمية الأولى، بل إن أمريكا رغم أنها جزء من العالم الغربي إلا أنها اختارت الحياد في الحرب العالمية الأولى، واختارته كذلك في الحرب العالمية الثانية إلى أن اضطرتها اليابان إلى خوض الحرب.

وبعد الحرب العالمية الأولى وهزيمة ألمانيا والدولة العثمانية استثمر الاتحاديون مفاوضات الصلح مع الحلفاء لإعلان سقوط الخلافة و الاتفاق على ترسيم حدود تركيا تاركين باقي الدولة ولايات للدولة العثمانية.

ومن جهة أخرى فقد كانت إنجلترا وحلفاؤها قد وعدوا الشريف حسين بإقامة دولة عربية كما كانوا قد اتفقوا على إلحاق الدول العربية فى الشمال الإفريقي بالدول الأوروبية

     وفي سبيل ذلك اخترعت عصبة الأمم نظام الانتداب بوصفها مرحلة تأهيلية لاستقلال هذه الدول ففرضت على كل دولة وصاية من إحدى الدول، ولما كانت معظم ولايات الدولة العثمانية واقعة تحت احتلال فعلي فقد تم تغيير مسماه إلى انتداب كما في حالة مصر مع إنجلترا.

8- الثورة العربية ضد الدولة العثمانية

     سوف يظل التاريخ يذكر هذه الثورة بوصفها نموذجا للغفلة المفرطة والثقة البلهاء في الأعداء مدفوعة بالكراهية المتبادلة بين بعض أبناء الأمة، وقد ذكرنا أن الشريف حسين كان في غاية الاستياء فترة وجوده في الأستانة من ازدراء الكمالية للعرب، ولما عين شريفا لمكة (ويقال: إن هذا التعيين جاء بضغوط من الكماليين على الخليفة؛ مما يفتح بابا لتطبيق نظرية المؤامرة) أظهر عداء للخليفة العثماني والتقطته المخابرات الإنجليزية (أو قل: إنها هي من أعدت السيناريو مسبقاً)، وأرسلت أحد رجالها ليتقرب إليه وإلى ابنه فيصل وهو رجل عرف فيما بعد بلقب (لورانس العرب)؛ لأنه تعلم العربية، وتربى بزي الأعراب فلم يكن يعرف حقيقة أمره إلا القليلون، وقد أقنع (لورانس العرب) الشريف حسين بأن إنجلترا عازمة حال خروجها من الحرب العالمية منتصرة أن تنصبه خليفة على الجزيرة العربية والعراق والشام؛ لأنه مستحق للخلافة لكونه هاشميا وأن بريطانيا تريد مساعدته على استعادة حق سلبه العثمانيون الظلمة من البيت النبوى الشريف، وهذا يعني تقسيم الدولة العثمانية إلى:

دولة تركية.

دولة عربية تشمل الجزء الأسيوي من العالم العربي.

توزيع الجزء الأفريقي من العالم العربي على الدول الأوروبية لكي يلتحم بها.

     وغالب الظن أن هذا القدر من التقسيم كان أقصى طموحات إنجلترا آنذاك إلا أنها وبعد ضغوط ورشاوى من يهود أوروبا أصدرت وعد بلفور؛ مما يعني استقطاع فسلطين من الدولة العربية التي وعدوا بها الشريف حسين الذي انزعج فأرسل مستفسراً فأجابوه أنه لا يعني إلا حرية إقامة اليهود في فلسطين دون أن يكون لهم الدولة (فرقوا له بين مصطلح الدولة والوطن ومرة أخرى يبدو أن هذا كان هو سقف آمالهم إلا أن الكرم الحاتمي للشريف حسين قد أغراهم برفع سقف الآمال).

     ويبدو أن صدام المصالح بين إنجلترا وروسيا وفرنسا وسعة صدر الشريف حسين قد أغرى إنجلترا بأن تعيد النظر في التقسيم المزمع فاتفقوا على أن تتقاسم بريطانيا وفرنسا بلاد الشام، لتتقلص الدولة العربية إلى الأردن والعراق، والحجاز (التي انتزعتها الدولة السعودية لاحقا) كما كان الإنجليز مسيطرين بالفعل على معظم سواحل الخليج.

ونأخذ من هذا أن الحرص على تقطيع أوصال البلاد الإسلامية لا يقف عند حد، وأن الذي يحكمه فقط هي حدود الممكن.

و قد وقعت إنجلترا وفرنسا هذا الاتفاق بواسطة روسية بما عرف باتفاقية (سايكس- بيكو) نسبة إلى الرجلين اللذين عقداها.

9- قيام إسرائيل أولى نماذج الفوضى الخلاقة:

     ظهر مصطلح الفوضى الخلاقة على لسان (كونداليزا رايس) حال كونها وزيرة لخارجية أمريكا، ولكن ظهوره من الناحية العملية كان أسبق من هذا بكثير فقد طبق في إنشاء دولة إسرائيل وخلاصة الأمر أنه بنهاية الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدولة العثمانية وقيام عصبة الأمم واختراعها لما عرف (بالانتداب) ووقوع فلسطين تحت الانتداب الإنجليزي (تمهيداً لتنفيذ وعد بلفور) وقد تلخصت سياساتها في النقاط الآتية:

السماح بهجرة اليهود إلى فلسطين بأعداد كبيرة.

تمليك الكثير من الأراضي لليهود.

تسهيل عملية وصول السلاح لليهود.

منع وصول السلاح للعرب.

غض الطرف عن أي صراع يكون الغلبة فيه لليهود بما في ذلك عمليات التهجير القسري وحرمة المزارع مثل الماشية، والتدخل السريع في أي نزاع تكون الغلبة فيه للعرب.

وفي النهاية جاء مسلسل (الفوضى الخلافة) بإعلان إنجلترا بطريقة مفاجئة (للعرب طبعاً) إنهاء الانتداب البريطاني عن فلسطين، لتتحرك العصابات اليهودية التي كانت قد أعدت عدتها وأعلنت قيام دولة إسرائيل.

     ورد عليها العرب بإعلان حرب 1948 والتي تعرض العرب فيها للخداع عدد مرات من قبل (الأمم المتحدة) وريث (عصبة الأمم) أو صدرت قرارات بهدنة أو إيقاف إطلاق نار احترمها العرب في حين استثمرتها إسرائيل في تحسين مواقعها العسكرية حتى استقر وجودها.

10- الحرب الباردة :

     بانتهاء الحرب العالمية الثانية وجد في العالم قطبان رئيسان الولايات المتحدة الأمريكية غرباً والاتحاد السوفيتي شرقاً، وكل منها قد خاض الحرب العالمية الثانية بشيء من التحفظ؛ مما أسهم في خروجهم من الحرب أقوى دولتين، وهو ما أسهم في أن تدير الدولتان أمورهما بشيء من التعقل، و كلما وصلت الأزمات بينهما إلى حافة الهاوية سارعا إلى مفاوضات تبعدها عن حافة الهاوية و لو بخطوات، وما زال الأمر كذلك حتى انهار الاتحاد السوفيتي كما أسلفنا ووجد ما عرف باسم (النظام العالمي الجديد).

وهي ما فتح المجال أمام محاولات الحفاظ على الهيمنة الأمريكية التي دشن أساسها الفلسفي من خلال نظرية (صدام الحضارات) وهو ما سنتناوله فى المرة القادمة إن شاء الله.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك