رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: ياسر سرحان الديب 23 مايو، 2019 0 تعليق

مقومات بناء الشخصية العلمية لقارىء القرآن الكريم ومقرئه (2)


قلنا في مقال سابق: إن من أجلّ الأعمال وأعلاها قدرًا تعليم كتاب الله -تعالى- وتعلمه، وهذا يقتضي اتصاف القائم به بصفات تؤهله لإتقان هذه المهمة النبيلة؛ ولذا فقد جمعت بعض هذه الصفات تذكرة لنفسي وإخواني من مقرئي كتاب الله -تعالى- لعل الله -تعالى- يزكي أعمالنا، ويرفع درجتنا في الدنيا والآخرة، وسنتناول قارئ القرآن الكريم ومقرئه وبعض صفاته التي تؤهله للمشاركة بمقومات شخصية تميزه في درب خيرية تعلّم القرآن وتعليمه، وسنتناول في هذه الحلقة أهم الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها قارىء القرآن ومقرئه ألا وهي: إخلاص النية لله -تعالى.

     فإن من أهم الأمور التي يجب على كل مكلف أن يأخذ نفسه بها، ويقيم أعماله عليها؛ إخلاص القصد لله في سائر أحواله الظاهرة والباطنة، بل هي أهمّ قاعدة في هذا الموضوع، وفي كل موضوع؛ وذلك أن الإنسان إذا عَمِل عملاً لا يبتغي به وجه الله - تعالى - فإن هذا العمل يكون مُحبَطًا، قال الله -تعالى-: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (سورة الزمر:65). إذا أخلص المرء لله لا يتعثر في سيره، وأُعطي توفيقاً بقدر ما في قلبه من الصدق والإخلاص، فالحذر الحذر أن تبتغي بالقرآن جاهًا، أو وجاهة، أو ارتفاعًا فوق الناس، أو إمامة للصلاة، أو أن يشار إليك، ويقال: هذا قارئ، أو أن يكون سبيلاً لتحصيل مال، أو أي عرض من أعراض الدنيا.

     قال النووي -رحمه الله-: ينبغي ألا يقصد به توصلا إلى غرض من أغراض الدنيا من مال أو رياسة أو وجاهة أو ارتفاع على أقرانه أو ثناء عند الناس أو صرف وجوه الناس إليه أو نحو ذلك، ولا يشوب المقرئ إقراءه بطمع في رفق يحصل له من بعض من يقرأ عليه سواء كان الرفق مالا أم خدمة وإن قل ولو كان على صورة الهدية التي لولا قراءته عليه لما أهداها إليه، قال الله -تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} (سورة الشورى:20).

الحذر من أمراض القلوب

     وليحذر المقرىء كل الحذر من الرياء والحسد والحقد والغيبة واحتقار غيره، وإن كان دونه؛ فقد روي عن الإمام أبي الحسن الكسائي أنه قال: صليت بالرشيد فأعجبته قراءتي؛ فغلطت في آية ما أخطأ فيها صبي قط، أردت أن أقول: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (آل عمران: 62) فقلت: لعلهم يرجعين! قال: فوالله ما اجترأ هارون أن يقول لي أخطأت، ولكنه لما سلمت قال لي: يا كسائي، أي لغة هذه؟ قلت: يا أمير المؤمنين قد يعثر الجواد! قال: أما هذا فنعم.

      فالإخلاص هو: تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، وعن حذيفة المرعشي -رحمه الله تعالى- قال: الإخلاص استواء أفعال العبد في الظاهر والباطن، وعن الفضيل بن عياض - رضي الله عنه - قال: ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهم.

من أجل القرب

     ومما لامراء فيه أن تعليم القرآن الكريم من أجل القرب وأعظمها أجراً، حتى فضله بعض السلف على الجهاد في سبيل الله؛ فمن مقتضى هذه العبودية في هذا العمل أن تُجرد النية لله في تعلمه وتعليمه، فلا أجر ولا ثواب لمن قرأ القرآن وحفظه رياءً أو سُمعة، ولا شكَّ أن من قرأ القرآن مريدًا الدنيا طالبا به الأجر الدنيوي، فهو آثم، وممن تسعَّر بهم النارُ في الآخرة، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن تعلَّم علمًا مما يُبتغَى به وجهُ الله - عز وجل - لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا، لم يجدْ عَرْف الجنة يوم القيامة» يعني: ريحها، وقال محمد بن واسع: «إذا أقبل العبد بقلبه على الله، أقبل الله بقلوب العباد عليه». ولعظم هذا الأمر وأهميته تمنّى ابن أبي جمرة الأندلسي: على أهل العلم أن يتفرغ بعضهم لهذا الموضوع، كي يعلم الناس مقاصدهم، فقال: «وددت أنه لو كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم، ويقعد للتدريس في أعمال النيات ليس إلا، فإنه ما أتي على كثير من الناس إلا من تضييع ذلك».

مرض خطير

     ومما ينبغي التنبيه عليه أن بعض القراء يكره أن طلابه يقرؤون على غيره ممن ينتفع بهم، وبين ذلك الإمام النووي بقوله: «وهذه مصيبة يبتلى بها بعض المعلمين الجاهلين، وهي دلالة بينة من صاحبها على سوء نيته، وفساد طويته، بل هي حجة قاطعة على عدم إرادته بتعليمه وجه الله -تعالى- الكريم؛ فإنه لو أراد الله -تعالى- بتعليمه لما كره ذلك، بل قال لنفسه: أنا أردت الطاعة بتعليمه وقد حصلت، وهو قصد بقراءته على غيري زيادة علم، فلا عتب عليه»، وقد ورد عن الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - أنه قال: «وددت أن الخلق تعلَّموا هذا العلم - يعني علمه وكتبه - على ألا ينسب إليَّ حرف منه».

جمع المال

     وكذلك نرى أن بعضهم يكون شغله الشاغل جمع المال وتحصيلة وذلك مما يؤثِّر على سمعة المقرىء ومكانته، ولاسيما إذا اتخذ التعليم والإقراء وسيلةً للحصول على مكاسبَ شخصية ودنيوية؛ فينبغي على من أكرمه الله بهذا الشرف العظيم ألا ينزل إلى ذاك الحضيض من المستوى في التفكير، بل قد وصل الأمر ببعضهم أنه يتعامل مع طلابه بطريقة البيع والشراء فيضع مبلغا للسورة والسورتين والجزء والجزئين والختمة والختمتين وللإجازة والسند ويعلنها صراحة على وسائل التواصل فيقول من يريد إجازة أو أي شيء! وهذا مما عمت به البلوى وإنا لله وإنا إليه راجعون.

     قال الحافظ السيوطي - رحمه الله -: «ما اعتاده كثير من مشايخ القراء من امتناعهم من الإجازة إلا بأخذ مال في مقابلها لا يجوز إجماعًا، بل إن علم أهليته وجب عليه الإجازة أو عدمها حرم عليه، وليست الإجازة مما يقابل بالمال، فلا يجوز أخذه عنها ولا الأجرة عليها.

أخذ المال من غير مسألة

     أما من كان متعففا مخلصا لله -عز وجل- وعُرض عليه شيء فلا بأس ولا حرج أن يأخذ هذا المال من غير مسألة، ولا إشراف نفس؛ فقد قال عمر بن الخطاب -  رضي الله عنه  -: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيني العطاء، فأقول أعطه من هو أفقر إليه مني، فقال: «خذه، إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل، فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من بلغه معروف عن أخيه من غير مسألة ولا إشراف نفس فليقبله، ولا يرده، فإنما هو رزق ساقه الله إليه».

صاحب حاجة

     ولكن قد يستثنى من هذه القاعدة مَن كان صاحب حاجة شديدة أو ظروف خاصة، فقد قال ابن مفلح - رحمه الله -: «وفي البخاري عن أبي هريرة - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن كنتُ لأستقرئ الرجل الآية هي معي كي ينقلب بي فيطعمني، قال ابن هبيرة: فيه دليل على جواز محادثة الرجل بشيء من الذِّكر والقرآن لقصدٍ يقصده الإنسان يستجلب به نفعًا له، أو يدفع به ضرورةً».

     بل قد أوجب المصنف على العالم إذا لم يكن لديه مالٌ يقتات منه: أن يتكسَّب، كيلا يذلَّ نفسه لطلاب الدنيا، أشار إلى ذلك المصنف فيما نقله عن ابن الجوزي - رحمهما الله - فقال: قال ابن الجوزي: «فإذا اتفق للعالم عائلة، وحاجات، وكفت أكف الناس عنه، ومنعته أنفَتُه من الذل هلك، فالأولى لمثل هذا العالم في هذا الزمان المظلم أن يجتهد في كسبٍ إن قدر عليه، وإن أمكنه نسخ بأجرة، ويدبر ما يحصل له، ويدخر الشيء لحاجة تعرض لئلا يحتاج إلى نذل».

التعليم على ثلاثة أوجه

ونقل العلامة السيوطي عن أبي الليث السمرقندي، أنه قال: التعليم على ثلاثة أوجه:

- أحدها: للحسبة، ولا يأخذ به عوضًا.

- والثاني: أن يعلم بالأجرة.

- والثالث: أن يعلم بغير شرط، فإذا أهدي إليه قَبِل.

فالأول مأجور، وعليه عمل الأنبياء، والثاني مختلف فيه، والأرجح الجواز، والثالث يجوز إجماعًا، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان معلمًا للخلق، وكان يقبل الهدية.

استشعار معنى الإخلاص

     فعلى المسلم أن يدرك أهمية أن تكون أعماله وأقواله خالصةً لله -تعالى-، وأنّ الإخلاص شرطٌ لقبول الأعمال، وأن يستشعر معنى الإخلاص في حياته. وذلك بأن يكون همّ الإنسان أولاً وآخراً ابتغاء رضا الله، ويقصد في عمله وقوله الفوز بالآخرة، وبجنّات النعيم، وأن يبتعد عن التفكير في الدنيا ومتعها، بل يتجّه نحو الآخرة ونعيمها.

الامتناع عن التعليم

ولكن هل يمتنع من تعليم أحد لكونه غير صحيح النية؟

     قال العلماء -رضي الله عنهم- ولا يُمتنع من تعليم أحد لكونه غير صحيح النية؛ فقد قال سفيان وغيره: طلبهم للعلم نية، وقالوا: طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله، معناه كانت غايته أن صار لله -تعالى-. فالإخلاص في التعليم والإقراء صفة مهمة بأن يعمل المعلم لإرضاء الله -تعالى-، على خوف من الله، يبتغي رضوان الله، ويجتهد في عمله ليس لإرضاء عين الرقيب، إنما إرضاءً لله -تعالى- ليمسِّك الناس بالكتاب، ويحببهم إليه، ويحملهم على حسن الأدب معه، وجودة تلاوته.

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك