
مشاهد وعبر من سورة الكهف – قصة ذي القرنين(4)
هذه جولةٌ تأمُّليةٌ في رحاب سورة الكهف، نستهدف منها إيقاظ وعي العاملين في الدعوة الإسلامية؛ فميادين الإصلاح متعددة، وبوسعهم أن يجعلوا مِن الحياة كلها محرابًا للدعوة إلى الله، والتغيير والإصلاح، وقد تضمّنَت السورة بين جنباتها أربعًا من القصص الرائعة، تحدثنا عن ثلاثة منها، وفي هذه المقالات نتناول القصة الرابعة وهي قصة ذي القرنين، وقد احتوت هذه القصة على ثلاثة مشاهد، المشهد الأول: الرحلة بين المشرق والمغرب، والمشهد الثاني: بناء السد، والمشهد الثالث: مشاهد يوم العرض، واليوم مع المشهد الثاني وهو بناء السدِّ، وقد تضمن هذا المشهد عددًا من الرسائل وهي: الخير الآسر، والتعاون المثمر والبذل المتفاني، وتوظيف الطاقات واستغلال المواهب.
الرسالة الثانية: التعاون المثمر والبذل المتفاني
قال الله -تعالى-: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا}، وافق ذو القرنين على مقترح البسطاء الذين لا يحسنون التعبير، وفي هذه الموافقة الفورية دلالة على تواضعه وحسن خلقه؛ فلم يستنكف أن ينزل على رأيهم، وينفِّذ طلبهم، وهو الملك الذي آتاه الله علم الأسباب، وبسط له من القوة والسلطان.
وفي الموافقة: دليل على اعتبار فقه الواقع؛ فهؤلاء القوم هم أكثر الناس دراية بواقعهم، وبما يصلح معهم، وقد اقترحوا بناء السد وفق رؤيتهم لأنفع الحلول، وأكثرها مناسبة للأزمة التي يعانونها.
وفي الموافقة كذلك: دليل على اعتبار موازين المصالح والمفاسد، والقدرة والعجز، وإلا لماذا لم يحارب ذو القرنين يأجوج ومأجوج حتى يقضي على فسادهم ويقطع دابرهم؟ ولماذا لم يُعمل فيهم قاعدة: {أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ}؟ الظاهر أن يأجوج ومأجوج كانوا من الكثرة والقوة بالدرجة التي تجعل القضاء عليهم أو محاربتهم شيئًا عسيرًا؛ لذلك عدل ذو القرنين عن استئصال الفساد، وانتقل إلى تقليله وتحجيمه؛ مراعاةً لموازين القوة والضعف، وهذا يدلنا على أن فقه المصالح والمفاسد ليس خاصًّا بفترات الاستضعاف فقط، بل يحتاج إليه كل أحد، سواء كان مستضعفًا أم ممكَّنًا.
فقه عظيم وتربية عالية
وفي طلب ذي القرنين منهم الإعانة فقه عظيم، وتربية عالية على العمل الجماعي، والتعاون على البر والتقوى، فقد كان بمقدور ذي القرنين أن يعمل في بناء السد بمفرده؛ لأنهم بالفعل عاجزون عن بنائه، ولكنه لم يعدم الوسيلة التي تجعلهم مساهمين معه في العمل، ومشاركين في تشييده.
وفي تأكيده أن تكون هذه الإعانة جادة وفعَّالة دليل على أهمية أن يأخذ الإنسان بأسباب النجاح، وأن الإنجاز لا يتحقق إلا ببذل الجهد، وإتقان العمل، كما كانت أوامر الله لبني إسرائيل: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:63)، فلا ينتظر العبد الثمرة المرجوة إلا من الأعمال التي أُخذت بقوة، وهذه سنة جارية من سنن الكون؛ فقد يأخذ الكفار بأسباب القوة فينالون المراد، وقد يفرِّط المسلمون فيها، فيصيبهم الخذلان، وتلحق بهم الهزيمة.
الرسالة الثالثة: توظيف الطاقات واستغلال المواهب
قال الله -تعالى-: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}، أحسن ذو القرنين غاية الإحسان في توظيف قدرات مَن معه، وبثَّ فيهم روح النشاط والجد والعمل، فتحولوا إلى خلية نحل، وتأمل مشهد فِرَق العمل وهي تعمل وفق توجيهات ذي القرنين، فقد قسَّم ذو القرنين المهام، وحدَّد مراحل العمل وشرع في التنفيذ المتقن، فمجموعة تحضر قطع الحديد وما يستتبعه من رصٍّ وتسوية وتركيب، ومجموعة توقد النيران وتنفخ فيها حتى تزداد شعلتها ويزداد وهجها، ومجموعة تجهز النحاس المذاب لكي تصبه بين فراغات الحديد، وهكذا سار العمل في تناغم وترتيب حتى انتهى منه، وصار سدًّا منيعًا.
وقد ذكر القرآن تفاصيل ذلك المشهد بدقة، رغم أنه كان بالإمكان أن يقول: وبُني السد، ولكن القرآن لا يذكر لنا تفاصيل أمرٍ إلا لحكمةٍ وهدفٍ، ولعل مِن أحدِ أوجه الحكمة في ذلك: أن يعطي لنا القرآن صورة عملية، ونموذجًا تطبيقيًّا لكيفية إتمام الأعمال الجماعية، ولا سيما وأن معظم أعمال المسلمين أعمال جماعية؛ فالصلاة جماعية، والحج جماعي، والجهاد جماعي؛ فلا يستقيم لأمةٍ جُل أعمالها جماعية ألا تعرف آداب الأعمال الجماعية وفقهها!
ضرورة وجود القائد
وترشدنا الآيات كذلك إلى ضرورة وجود القائد، ودوره في تحقيق الإنجاز والنجاح، فهؤلاء القوم لديهم الإمكانيات، ولكنهم لم يحسنوا توظيفها، ولم يتمكنوا من توجيهها واستثمارها فيما يفيد وينفع، فرغم أن لديهم الحديد والنحاس والأدوات والموقع الجغرافي والتضاريسي المناسب، إلا أنهم عجزوا عن تحويل كل هذه الموارد إلى إنجازٍ واقعيٍ ملموسٍ، وعندما جاء ذو القرنين سخَّر ما لديهم مِن إمكانياتٍ في تحقيق المراد.
ومن عجائب الآية: أن ذا القرنين تمكَّن من تحويل السكون والركود إلى طاقة وحركة إيجابية؛ فجعل مِن القوم الذين لا يحسنون قولًا بناةً لأحد عجائب الزمان في وقتهم، وهذا يرشدنا إلى دور القائد في إيجاد الهدف، وصناعة التحدي، وزرع الأمل والإيجابية، فقد حمَّلهم بالقضية ثم أرشدهم إلى مواهبهم وقدراتهم، وأشرف على عملية توظيفها، فأنقذهم من الكسل والتواني، والسلبية والشعور بالعجز والتقزم، وهكذا يجب أن يفعل الدعاة والقادة في كل مكان يذهبون إليه.
إن تجربة ذي القرنين تجربة داعيةٍ إلى الله، ومصلحٍ في الأرض قبل أن يكون ملكًا أو سلطانًا، وهي تجربة جدير بالدعاة أن يقتفوا أثرها ويسعوا لتكرارها في مجتمعاتهم، فما أكثر السدود التي يحتاج الدعاة لبنائها لحماية الناس مِن فتن الدِّين والدنيا! وما أكثر الطاقات المهدرة، والمواهب المدفونة التي تحتاج إلى خبيرٍ ماهرٍ يكتشفها، ويحسن توظيفها واستغلالها!.
فوائد من المشهد
- وافق ذو القرنين على فكرة بناء السد، وفي هذا دليل على اعتبار موازين المصالح والمفاسد، والقدرة والعجز، وإلا فلماذا لم يحارب ذو القرنين يأجوج ومأجوج حتى يقضي على فسادهم ويقطع دابرهم؟! ولماذا لم يُعمل فيهم قاعدة: «أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ»؟! الظاهر أن يأجوج ومأجوج كانوا من الكثرة والقوة بالدرجة التي تجعل القضاء عليهم أو محاربتهم شيئًا عسيرًا، لذلك عدل ذو القرنين عن استئصال الفساد، وانتقل إلى تقليله وتحجيمه؛ مراعاة لموازين القوة والضعف. وهذا يدلنا على أن فقه المصالح والمفاسد ليس خاصًّا بفترات الاستضعاف فقط، بل يحتاج إليه كل أحدٍ سواء كان مستضعفًا أو ممكَّنًا.
- نتعلم من طلب ذي القرنين ضرورة وجود القائد، وأهمية دوره في تحقيق الإنجاز والنجاح، فهؤلاء القوم لديهم الإمكانيات، ولكنهم لم يحسنوا توظيفها، ولم يتمكنوا من توجيهها واستثمارها فيما يفيد وينفع، وعندما جاء ذو القرنين سخَّر ما لديهم من إمكانيات في تحقيق المراد.
- ذكر لنا القرآن تفاصيل مشهد بناء السد بدقة، رغم أنه كان بالإمكان أن يقول: وبُني السد، ولكن القرآن لا يذكر لنا تفاصيل أمرٍ إلا لحكمةٍ وهدفٍ، ولعل مِن أحدِ أوجه الحكمة في ذلك: أن يعطي لنا القرآن صورة عملية ونموذجًا تطبيقيًّا لكيفية إتمام الأعمال الجماعية.
- إن تجربة ذي القرنين تجربة داعية إلى الله، ومصلح في الأرض قبل أن يكون ملِكًا أو سلطانًا، وهي تجربة جدير بالدعاة أن يقتفوا أثرها ويسعوا لتكرارها في مجتمعاتهم، فما أكثر السدود التي يحتاج الدعاة لبنائها لحماية الناس من فتن الدِّين والدنيا! وما أكثر الطاقات المهدرة والمواهب المدفونة التي تحتاج إلى خبيرٍ ماهرٍ يكتشفها، ويحسن توظيفها واستغلالها!.
لاتوجد تعليقات