رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 19 ديسمبر، 2018 0 تعليق

صحة الوقف منوطة بأهلية الواقف(2)

 

باب الوقف من الأبواب المهمة التي من الأهميّة تقرير ضوابطه؛ ذلك أنّ عامّة أحكام الوقف اجتهاديّة؛ فلا مناص من الانطلاق في تقريرها من أصول الشريعة العامّة الضابطة لباب المصالح والمنافع على وجه الخصوص، ثمّ من القواعد الفقهيّة الكلّيّة، ثم يترجم كلّ ذلك على هيئة ضوابط خاصّة بباب الوقف، وهو ما سنتناوله في هذه السلسلة المباركة إن شاء الله، واليوم نستكمل الحديث عن الضابط الأول وهو صحة صحّة الوقف منوطةٌ بأهليّة الواقف.

     ذكرنا في المقال السابق أن الفقهاء اتفقوا على أنّ المجنون لا يصحّ منه الوقف حالَ جنونه وغياب عقله، وإنّما بحثوا بشيءٍ من التّفصيل حكم وقفه -كبحثهم لسائر تصرّفاته- إذا لم يكن جنونُه مطبقاً، بمعنى أنّه يُجنّ حيناً ويُفيق حينًا، ويُلحَق باسم الجنون في الحكم صور وأوصاف تُقارِبُه في تحقيق فسادٍ جزئيٍّ في العقل، مثل: العَتَه الشّديد، والخَرَف، والسَّفَه، والسُّكْر، والغضب الشديد المطبق على العقل، وتوقفنا عند توجهات الفقهاء الفقهية في حالة السكر.

التوجُّهات الفقهيّة

يمكن إجمال التوجُّهات الفقهيّة في ذلك في الآتي:

الاتّجاه الأوّل

     أنّ تصرُّفات السّكران القوليّة ليست معتبرة؛ فلا يقع طلاقه ولا عتقه ولا بيعه ولا شراؤه ولا تبرّعاته؛ لأنّه غائب العقل، ولا ارتباطَ بين استحقاقِه للعقوبة وبين إنفاذ عقوده وتصرُّفاته؛ لأنّ شرط اعتبار العقود هو التمييز والعقل، وهو لا عقل له ولا تمييز، وقد قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا لَا تَقْرَبُوْا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوْا مَا تَقُوْلُوْنَ...}؛ فقد جعلَ السُّكْرَ مانعاً من علمِ السَّكران بما يقول، وجعلَ عَوْدَ العلمِ غايةً لزوال السُّكْر، فالسُّكْر وتميُّزُ القصد نقيضان؛ وعليه فإنّ كلّ تصرُّف يُشترطُ فيه العقل والتمييز لا يصحّ من السّكران، واستحقاقُه العقوبةَ شأنٌ آخر، وقد ذهب إلى هذا أكثر المالكيّة، وبعض الحنابلة، واختاره شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيّم.

الاتّجاه الثاني

     أنّ الأصل في تصرُّفات السّكران الصحّة والنّفاذ، إلا في مسائل استثنوها على خلافٍ فيها بينهم، وأجود ما تمسّك به هؤلاء من الأدلّة هو أنّ السكران مكلّف، ولم يدلّ دليلٌ من الشّرع على رفع القلم عنه كما هو الحال في المجنون والنّائم والصغير غير المميّز، ومع ذلك فهو مسلكٌ ضعيفٌ، وقد بسط شيخ الإسلام الأدلّة على ضعفه ونُصرة القول الأوّل في الموضع المشار إليه، وقد ذهب إلى هذا الحنفيّة والشافعيّة والحنابلة، وبعض المالكيّة، ولم يخلُ مذهبٌ من مخالفٍ من أهلِه للمشهورِ فيه، في شأن السكران ومسائِلِه.

حكم وقف السّكران

وقلّ من نصّ على حكم وقف السّكران صراحةً، وإنّما اكتُفي بتخريجِ حُكم وقفِه على إطلاقاتِ الفقهاء والأصوليّين من المذاهب المختلفة في أحكام الأهليّة وعوارضِها، وتأثير السُّكْر على المكلَّف باعتباره عارضاً يعرِض له، هكذا غالباً.

     قال علاء الدّين البخاري الحنفي: «لمّا كان في وُسعه دفعُ السُّكْر عن نفسه بالامتناع عن الشُّرب، كان هو بالإقدام على الشُّرب مضيّعًا للقُدْرة، فيبقى التّكليف متوجّهًا عليه في حقّ الإثم، وإنْ لم تبق في حقّ الأداء، وبهذا الطّريق بقي التّكليف بالعبادات في حقّه وإن كان لا يقدر على الأداء ولا يصحّ منه الأداء... وإذا ثبت أنّ السّكران مخاطبٌ ثبت أن السُّكْر لا يُبطل شيئًا من الأهليّة، لأنّها بالعقل والبلوغ، والسُّكْر لا يؤثّر في العقل بالإعدام، فيلزمه أحكام الشّرع كلُّها من الصّلاة والصّوم وغيرهما، وتصحُّ عباراته كلُّها بالطّلاق والعتاق...»، وهذا واضحٌ في تصحيح وقفه إذا صحّ إعتاقُه، وهذا هو المذهب عند الحنفيّة كما أشرنا.

وقال النّووي: «وأمّا السّكران فالمذهب صحّة بيعه وشرائه وسائر عقوده التي تضرُّه والتي تنفعُه...».

وقال البهوتي: «ويؤاخَذ السكران ونحوه بأقواله وأفعاله، وكلّ فعل يعتبر له العقل من قتل وقذف وزنا وسرقة وظهار وإيلاء وبيع وشراء وردّة وإسلام ونحوه كوقْف وعارية وقبض أمانةٍ...»، هذا هو المعتمد في المذهب عند الحنابلة، وعندهم روايات أخرى.

والرّاجح في وقف السّكران عدم صحّته بحالٍ، لا ابتداءً ولا مشروطًا بإجازة أحدٍ، ولا موقوفاً على شيءٍ آخر، للوجه المشار إليه عند ابن تيميّة سابقاً، ولجمهرةٍ من الأدلّة بسطَهَا رحمه الله.

1- السَّفَه

     والسَّفيه في اللّغة: «السين والفاء والهاء أصلٌ واحدٌ، يدلُّ على خفّةٍ وسخافة، وهو قياسٌ مطّرد، فالسَّفَه ضدّ الحِلم»، والسَّفَه لا ينافي العقل، وإنّما ينافي كمالَه المعبَّر عنه بالرُّشد، والمراد به في هذا السّياق: الرُّشد المتعلّق بالإحسان في تدبير المال، وإن كان صاحب التصرُّف فاسقاً قليل الدّين، فمن لم يكن يُحسِن تدبير المال، ويسعى في تضييعه فيما لم يُجعَل المال لأجله شرعاً، فهو سفيهٌ حكماً، وإن كان صحيح الدّين مرضيّ السّلوك في النواحي الأخرى.

قال ابن الهمام في بيان معنى السَّفَه نقلاً عن (العناية): هو «خفّةٌ تعتري الإنسان؛ فتحمله على العمل بخلاف موجَب الشّرع والعقل، مع قيام العقل، وقد غلب في عُرف الفقهاء على تبذير المال وإتلافه على خلاف مقتضى الشرع والعقل».

والأصل في ذلك قولُه -تعالى-: {وَلَا تُؤْتُوْا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُم الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}.

وقد أخذ الفقهاء من هذه الآيةِ أنّ الحَجْرَ يرتفعُ عن الصّغير، وتكتملُ أهليّتُه للتصرُّف في المال بشرطين لا بدّ منهما:

الأوّل: البلوغ.

الثاني: الرُّشد.

والآية تنصُّ عليهما بوضوحٍ، فالصغير إذاً إمّا أن يبلُغَ رشيدًا، أو يبلُغ غير رشيد، فإنْ أُونِسَ منه الرُّشدُ بعد بلوغِه دُفع إليه مالُه بإجماع الفقهاء، لتحقُّق الشرطَّيْن واكتمال أهليّة التصرُّف فيه.

وإن بلغَ ولم يُعرَف منه الرُّشد، فذهب السّواد الأعظم من الفقهاء في هذه الحالة إلى أنّها ليست كالحالة الأولى، فلا يُدفَع إليه مالُه، واختصّ أبو حنيفةَ -رحمه الله- بأنْ جعل للحَجْر في هذه الصورةَ غايةً ينتهي إليها، وهي بلوغ خمسٍ وعشرين سنةً!

     ولا شكّ أنّ قول الجمهور بمنع صحّة الوقف أقرب إلى الصّواب والرّجحان، إلّا أنّ الجمهور ليسوا على قولٍ واحدٍ في الصّور كلها، فعند أبي يوسف: يصحّ وقفُه إلّا إذا حجَرَ عليه القاضي؛ فاستمرارُ الحَجْر عندَه بعد البلوغ يكون بالقضاء، وعند المالكيّة والشافعيّة: إذا بلغ سفيهًا فحُكم الحجر باقٍ عليه للآية، وإن رَشَدَ ثمّ سَفِهَ، لا يحجر عليه إلا القاضي.

واستثنى بعض الحنفيّة صحّة وقف السّفيه على نفسِه! على أن يكون آخر الوقف لجهةٍ لا تنقطع.

ثالثاً: الحرّيّة.

     فالعبد المملوك لا يصحّ وقفُه، لأنّه لا يملك؛ فلا يصحّ تصرُّفه، إلّا إذا أَذِنَ له سيّده بذلك؛ فإنّه يكون نائبًا عن المالك في ذلك، وقد اتّفق الفقهاء على أنّ كلّ عقود التبرّعات والمعاوضات يُشترط لها ملك العاقد للعين المعقود عليها، أو الإذن له في التصرُّف فيها، وإذا كانت الحريّة مشروطةً في الواقف لتحقُّق الملك الخالص بها، فممّا يعرِضُ لهذا الشّرط، الحَجْر بسبب الإفلاس.

وقف المفلِس

المفلس محجورٌ عليه في تصرُّفاته الماليّة حفظًا لحقّ غرمائه، والحَجْر: المنع والتضييق، وفي اصطلاح الفقهاء يدور معناه على منع الإنسان من التصرُّف في ماله، ومن عباراتهم في تقرير هذا المعنى:

قال الحنفيّة: «منعٌ عن التصرُّف قولاً لا فعلاً، لِصِغَرٍ ورِقٍّ وجنون».

وقال المالكيّة: «صفةٌ حُكميّة تُوجب منع موصوفها من نفوذ تصرُّفه فيما زاد على قُوْته، أو تبرُّعه بزائدٍ على ثلث مالِه».

وقال الشافعيّة: «المنع من التصرُّفات الماليّة».

وقال الحنابلة: «منع الإنسان من التصرُّف في ماله».

وأسباب الحَجْر عند الفقهاء متنوّعة؛ منها الصِّغَر، والجنون، والسَّفَه على خلافٍ، ومنها الإفلاس.

والمفلس الذي نريده هنا هو المَدِين الذي نادى عليه القاضي بمنعه من التصرُّف في ماله حفظًا لحقّ غرماءئه، وهو من لا يفي مالُه بدَيْنِه اللّازم الحالّ.

تصرُّفات المفلس الماليّة

إذا عُرِفَ هذا، فالفقهاءُ قد فرّقوا في تصرُّفات المفلس الماليّة التي تقع بعد يحكُم عليه القاضي بالحَجْر بعد وصولِه إلى حالة الإفلاس، وبين تصرُّفاتِه بعد إفلاسِه وقبل أن يحجُر عليه القاضي، ونحن ننظُر إلى حُكم وقفه في الحالتين:

- الأولى: وقف المفلس المحجور عليه قضائيًّا: ذهب جمهور أهل العلم إلى عدم صحّة وقفه، خلافاً لأبي حنيفة وصاحبه زُفَر، وهذا القول هو الصّحيح الرّاجح، واختاره شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيّم، وهو قولٌ منصورٌ بأدلّةٍ نقليّة وعقليّةٍ ظاهرة.

- الثانية: وقف المفلس قبل أن يحجر عليه القاضي: والخلاف في هذه الصّورة أوسع من سابقتها؛ فقد ذهب إلى عدم صحّة الوقف جماعةٌ من الحنفيّة، واختاره شيخ الإسلام وابن القيّم، وهو مذهب المالكيّة، لكنّهم جعلوا نُفوذَه موقوفاً على إجازة صاحب الحقّ، وهو وجيهٌ جدًّا.

وذهب الحنفيّة في المعتمد، والشافعيّة والحنابلة إلى صحّة وقفه، بناءً على أنّ الحجر لا يكون إلّا قضائيًّا، ولا يأخذ حكمَه إلى بحُكم حاكمٍ.

وختاماً للكلام على هذا الضّابط، فهذه الشروط الثّلاثة (البلوغ والعقل والحرية) هي التي تتمثّل فيها أهليّة الواقف عموما، وقد عرفتَ ما يمكن أن يعرِضَ لها على نحوٍ مجملٍ أيضاً، فصحّة الوقف منوطةٌ بتوفُّر هذه الشّروط وانتفاء ما سُقْناهُ تحتها من موانعَ.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك