
دروس من قصص القرآن الكريم – فصول من دعوة إبراهيم -عليه السلام- (3)
- لقد كسر إبراهيم عليه السلام الأصنام ليقيم الحجة على أن هذه الأصنام لا تصلح أن تعبد لأنها لم تستطع الدفاع عن نفسها وليحمل قومه على التفكير بأن الذي يجب أن يكون معبودا إنما هو الله الخالق
- مهمة إبراهيم عليه السلام إنما بدأت من قومه ولم تنته عندهم حيث هاجر بعد ذلك فكانت له دعوة في الشام ومصر وبيت المقدس ومكة المكرمة
تعدّ قصة إبراهيم -عليه السلام- في القرآن أطول القصص بعد قصة موسى -عليه السلام-، وقد كان -عليه السلام- يلتزم في دعوته منهج الحوار والمحاججة؛ فكان قد بدأ بأبيه، ثم انتقل إلى قومه من عبدة الكواكب والأصنام.
إبراهيم عليه السلام وتكسيره الأصنام
كان إبراهيم -عليه السلام- قد هدي إلى الحق من صغره، وقال عنه قومه -حين رأوا أصنامهم وقد كسرها لهم- {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} (الأنبياء: 59-60)، والشاهد هو في قولهم (فتى)؛ فإنه حين قام بهذه المواجهة الدعوية مع قومه كان (فتى)، والفتى هو الشاب الذي بين التاسعة عشرة والثلاثين من العمر، وقد بين لقومه بطريقة عملية أن هذه الأصنام التي يعبدونها لا تملك لنفسها ولا لغيرها نفعاً ولا ضراً، ولكنه بدل أن يلقنهم ذلك قررهم به قال -تعالى عن تكسيره للأصنام-: {فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} (الأنبياء: 58)، أي فتت أصنامهم إلى قطع صغيرة، إلا الصنم الأكبر تركه من غير تكسير، {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} أي حتى يسألوه كيف وقع ذلك وهو حاضر، ولم يستطع الدفاع عن إخوته الصغار؟!.إقامة الحجة والدليل
لقد فعل إبراهيم -عليه السلام- ذلك مع أصنامهم ليقيم لهم أوضح دليل على أن هذه الأصنام لا تصلح أن تعبد؛ لأنها لم تستطع الدفاع عن نفسها، وليحملهم على التفكير بأن الذي يجب أن يكون معبودا، إنما هو الله الخالق، فلما رأى القوم أصنامهم وقد حل بها ما حل، قرروا أن يأتوا بإبراهيم ليحاكموه على مرأى من الناس جميعاً؛ حتى إذا ما أنزلوا به العقوبة كان عبرة لغيره، {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} (الأنبياء: 61-63)، ويصور لنا القرآن الكريم حال القوم حين أظهر لهم بالدليل الحي عجز آلهتهم؛ حيث قال: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} (الأنبياء: 64)، أي لاموا أنفسهم على هذه العبادة الباطلة، لكن هذا حصل لوقت قصير جدا، فما لبثوا أن عادوا لما كانوا عليه من الضلال والعناد، قال -تعالى-: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} (الأنبياء: 65)، نُكسوا من النكس وهو قلب الشيء؛ بحيث يصير أعلاه أسفله، فما أن لاحت في عقولهم ومضة من نور الحق حتى سارعوا بإطفائها بعناد الكفر، مصرين على السير عكس الطريق الصحيح، فبينما هم يقصدون رقي الروح وعلو النفس بعبادتهم، إذا بها تودي بهم في مهالك الردى وتهوي بهم إلى أسفل سافلين، عند ذلك وقد ضاقوا به ذرعاً، وعجزوا عن المنطق السليم في الرد على محاجته، قرروا أن يحرقوه بالنار، ولكن الله -تعالى- أنجاه منها، وذاع صيت إبراهيم في الناس.لقاء إبراهيم بالملك
يبدو -كما رجح الطبري وابن كثير- أن لقاءه -عليه السلام- بالملك، كان في عقب تكسيره للأصنام، حين قرر الناس أن يحرقوه بالنار، ولم يذكر القرآن لنا اسم الملك، ولا صفته، كما أن ذلك لم يرد في السنة أيضاً وإنما اشتهر بين القصاص وأهل التفسير، أنه النمروذ فيقولون: إنه بقي في الملك أربعمائة عام، وأنه أول من توج ملكاً في الأرض بعد الطوفان؛ لذلك طغى وتجبر وأنكر وجود الله -تعالى-، وقد بين الله -تعالى- سبب طغيانه؛ فقال {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} (البقرة: 258)، أي أغراه ملكه بالكفر.{رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}
ورجح بعض العلماء أن قول إبراهيم -عليه السلام- لهذا الملك: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} كان جوابا على سؤال سابق؛ فإن إبراهيم لابد أخبره بأنه مرسل من الله، فطالبه المنكر بإثبات أنَّ للعالم إلهًا، فقال إبراهيم -عليه السلام-: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}، وهي إجابة تامة كاملة الصحة، تفيد الحصر، فلا حياة على الأرض لشيء ولا موت له إلا بالله -تعالى-، بخلقه وتقديره، ولا أدل على وجود الله من حياة هذه الموجودات، من إنس وحيوان وغير ذلك، فالذي أحياها هو الله، والذي ينهي حياتها هو الله، لكن ذلك الملك كان بليداً في مناظرته، فإذا به يحول مسار الدليل من قضية كونية تستحق التفكر والتأمل، إلى حدث فردي بسيط ساذج، فحين قال إبراهيم -عليه السلام- {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} (البقرة: 258)، قيل: إنه أتى برجلين كلاهما محكوم عليهما بالإعدام، فأمر بتنفيذ الحكم على أحدهما وعفا عن الآخر، (الطبري، 5/433)، عند ذلك ظهرت حصافة إبراهيم -عليه السلام-؛ حيث لم يسمح لهذا الجدل العقيم أن يستمر، وأنهى الحوار بحجة لا تقبل الإنكار {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (البقرة: 258)، أي انقطعت حجته وأصابته الحيرة ولم يستطع الرد، وظل الكافر على كفره بسبب أن الظلم متجذر في قلبه، ومن كان هذا شأنه فإنه لا يهتدي إلى الحق مهما أوتي من البراهين.سؤال وارد على الذهن
- قد يرد على الذهن سؤال بخصوص قوم إبراهيم -عليه السلام-، يقول: لماذا بعد أن ألقى الكفار خليل الله في النار، وكفروا به، لم ينزل بهم العذاب كما نزل بقوم عاد وقوم ثمود؟
لاتوجد تعليقات