
دروس من قصص القرآن الكريم .. إسماعيل عليه السلام
- كان لإسماعيل عليه السلام شأن عند الله تعالى وعلى الرغم من ذلك لم تسلم حياته من الابتلاء فابتلي في مراحل عمره كلها
- إن ما تحلى به إسماعيل عليه السلام من عظيم الخصال لهو دليل على أن البيت الذي تربي فيه ليس كباقي البيوت وأمه ليست كباقي الأمهات
- جاء الأمر لإبراهيم عليه السلام برفع قواعد البيت ليبقى شاهدًا على أن الله لا يضيع أهله وأن التمكين هو عاقبة الصبر مع الطاعة
دعا إبراهيم -عليه السلام- ربه أن يرزقه الولد فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} (الصافات: 100)، وقال -تعالى-: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} (الصافات: 101)، فرزق بإسماعيل -عليهما السلام-، وكان قد ولد في فلسطين، فهاجر به أبوه مع أمه هاجر إلى مكة؛ حيث لم يكن ثمة شيء بها غير الجبال، فسار بهما ثم تركهما ومعهما قليل من الماء والتمر، فلما نفد ذلك، جعلت هاجر تسعى سعي المجهود هنا وهناك، وصعدت فوق جبل الصفا وفوق جبل المروة، فعلت ذلك سبع مرات تبحث عن غوث، وكلها رجاء في الله ألا يضيعها وابنها، ثم إذا بالغوث يأتيها من تحت رجل وليدها، لتعلم أن الله لا يتخلى عن أوليائه، ولتعلم أن هذا الصغير سيكون له شأن عند الله، ثم إنها قد وفد عليها ناس من قبيلة جرهم، فسكنوا معها حول الماء.
المجد لا ينال بالراحة
لما كان إسماعيل -عليه السلام- له شأن عند الله، فإن حياته لم تسلم من الابتلاء، فابتلي في مراحل عمره، إذ رحل الأب به وبأمه بأمر من الله إلى ذلك المكان البعيد القفر الذي لا زرع فيه ولا ماء، فإسماعيل عظيم من العظماء، والمجد لا ينال بالراحة ولكن بالابتلاء، ومكابدة المشقات، وبالصبر، فقد قيل للشافعي -رحمه الله-، أيهما أفضل للرجل أن يمكّن أو يبتلى؟ فقال: لا يمكّن حتى يبتلى؛ فتتابعت الابتلاءات على إسماعيل وهو طفل رضيع، ثم وهو فتىً يسعى مع أبيه، ثم وهو رجل له بيت وأسرة.
محنة الذبيح
حين بلغ إسماعيل -عليه السلام- مبلغ السعي، كان عمره على الراجح بين العاشرة والثالثة عشرة، جاءه أبوه -عليه السلام- ليخبره بأنه رأى في منامه أنه يذبحه {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (الصافات: 102)، فلما نجح الابن في الاختبار ونجح الأب ونجحت الزوجة، فداه الله بذبح عظيم.
إسماعيل رجلاً
حين صار إسماعيل -عليه السلام- رجلاً، جاءه الابتلاء الثالث، فقد كان تزوج وماتت أمه وجاء إبراهيم -عليه السلام- إلى مكة، فلم يجده ووجد امرأته، «فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت نحن بِشر حال، نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي -عليه السلام-، وقولي له يُغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئا، فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا، فأخبرته أنا في جَهد وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غير عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك، فطلقها، وتزوج منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته فسألها عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله، فقال: ما طعامكم؟ قالت اللحم، قال فما شرابكم؟ قالت الماء. قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء» (رواه البخاري)، لقد أمر إبراهيم -عليه السلام- ابنه أن يطلق زوجته، ولم يره، ولم يسمع منه، ولم يعرف مقدارها عنده، ولا تعلقه بها، ومع ذلك تجد الابن الصابر طائعاً لأبيه، لا يناقش، ولا يتردد.
مكافأة الابن البار
لما كان هذا شأن إسماعيل دائمًا، في بره وطاعته، فقد كان جديرًا بأن يعاون أباه في أعظم عمل يعمله بشر على وجه الأرض، ألا وهو رفع قواعد البيت الحرام؛ فقد قال إبراهيم: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر، فقال إسماعيل: فاصنع ما أمرك به ربك، قال إبراهيم: وتعينني؟ قال: وأعينك. فقال إبراهيم: فإن الله أمرني أن أبني هنا بيتا. (صحيح البخاري)، وقد قال العلماء: إن آدم هو من بنى الكعبة أولاً بإرشاد الملائكة، وطاف حولها مثلما تطوف الملائكة حول عرش الله -تعالى- في السماء؛ فلما مرت القرون، وكان الطوفان، ضاع أثر البيت وخفي مكانه؛ فجاء الأمر لإبراهيم برفع قواعده ليبقى ذلك البيت شاهدًا على أن الله لا يضيع أهله، وأن التمكين والرفعة هو عاقبة الصبر مع الطاعة.
الابن البار هو غرس الأم البارة
لم يكن إسماعيل قد اكتسب بره بأبيه من فطرته فحسب؛ بل كان للتربية دور بلا شك؛ فقد كانت هناك مقدمات تمثلت في بر أبيه بجّده الكافر، وبرّ أمه بأبيه وطاعتها له، وجميل يقينها بربها، وثقتها فيه، لقد كان -عليه السلام- بمثابة البذرة المباركة التي ارتوت بماء البر في منبتها الطاهر وتربتها الطيبة التي هي الأم الصالحة.
لا وحي بعد النبوة
حين ننظر في مسألة الذبح، ورؤيا إبراهيم -عليه السلام- في ذلك، ينبغي أن نضع الأمر في سياقه الصحيح، حتى لا نضل؛ فإن هذا الأمر لا يقاس عليه؛ لأننا أمام بيت نبوة، أب يأتيه الوحي من السماء صباحاَ ومساءً، وأم يبشرها الملك من السماء، ويقول لها: إن الله لا يضيع أهله، وإن ابنك هذا سيبني وأبوه هاهنا بيت الله، فلذلك قابلت الأم موضوع الذبح برباطة جأش وثقة في الله.
الإعداد شرط التكوين
إن أقدار الله -تعالى- قد هيأت نفوس أبطال قصة الفداء لتلقي أمر الله بالقبول والصبر والتسليم؛ فأخذتهم قبل الأمر الجلل بالتدرب على شديد الطاعات، واعتيادهم على تنفيذ الأوامر الصعبة، التي تتوقف عندها العقول، فإبراهيم -عليه السلام- أُلقي في النار من قبل، فعاين باليقين كيف تكون معية الله لأوليائه؛ فلا غرابة أن يُهرع لتنفيذ أمر الذبح بمجرد أن يأتيه الأمر، وهكذا شأن سيدتنا هاجر؛ فإنها التي قالت قبل ذلك عن ربها: «إذن لا يضيعنا»، لقد جربت جني ثمرة الطاعة، مهما كانت قساوة تلك الطاعة، أو استعصاؤها على الفهم؛ فلذلك تجلدت حين جاء الأمر لإبراهيم بذبح وحيدها، فهي لا تزال تؤمن بقولها الأول: «إذن لا يضيعنا»، أما إسماعيل ذلك الفتى الصغير السن، فإن استسلامه وصبره يؤخذ منه الدرس؛ لأن هذا هو أول اختبارات العبودية له، ومع ذلك نراه متحليًا بالشجاعة والصبر.
أم إسماعيل ليست كباقي الأمهات
إن ما تحلى به إسماعيل من عظيم الخصال، لهو دليل على أن البيت الذي تربي فيه إسماعيل ليس كباقي البيوت، وأمه ليست كباقي الأمهات، لقد ربته سيدة المؤمنين هاجر -رحمة الله عليها وبركاته- على حب ربه وطاعته، وربته على حب أبيه والثقة فيه.
خلّد الله ذِكر هاجر
لقد خلّد الله لنا ذكرها حين شرع لنا ركنًا في الحج والعمرة يذكِّرُنا بها، وبصبرها، ويقينها، وليعلمنا الله -تعالى- أن المرأة الصالحة هي المرأة البارة الصابرة الناصحة، التي تجمع مع قوة الإيمان بالله طاعة الزوج وحسن تربية الولد على طاعة ربه وطاعة أبيه، هذه المرأة التي ابتليت مع نبيَّيْن كريمين فنصحت وصبرت جديرة بأن يُشكر سعيها إلى يوم القيامة؛ لتكون وابنها -عليهما السلام- قدوة لكل أب وأم في تربية أبنائهما، وقدوة لكل ابن وبنت في طاعة والديهما، وقدوة لكل زوجة في البر بزوجها.
لاتوجد تعليقات