
خطبة المسجد الحرام – تأملات في اسم الله (الحليم)
- حِلمُ اللهِ تعالى يستوجِب محبتَه لأن المرء الحليم محبوب فكيف بربنا الجليل سبحانه الموصوف بكمال الحِلم وتمامه
- إن ربنا هو الحليم له الحِلم الكامل، ووسع حلمه أهل الكفر والفسوق والعصيان
كانت خطبة المسجد النبوي -لهذا الأسبوع بتاريخ 11 جمادى الآخرة 1446هـ الموافق 13 ديسمبر 2024م- بعنوان: (تأملات في اسم الله الحليم)، ألقاها إمام وخطيب الحرم المكي فضيلة الشيخ د. فيصل بن جميل غزاوي -حفظه الله-؛ حيث تناول في بداية خطبته الوصية الربانية بتقوى الله -عز وجل- ومراقبته -سبحانه- وتعظيمه قائلا: اتقوا الله حقَّ تقاته، وعظِّموه حقَّ تعظيمه، واقدروه قدرَه، واخضعوا لأمره، وانقادوا لشرعه، ولا تغترُّوا بحِلمه، وانظروا ماذا ادخرتُم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم، وعرضكم على ربكم؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(الْحَشْرِ: 18).
اسم الله الحليم
إنَّ من أسماء الله الحسنى: الحليم، وقد وصف -تبارك وتعالى- نفسه بالحِلْم فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}(الْبَقَرَةِ: 235)، وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}(الْبَقَرَةِ: 263)، وهي صفةُ كمالٍ، تقوم على الحكمة والعِلْم والصبر، والحليم -سبحانه- هو الصبور ذو الصفح والأناة، الذي لا يستخفه جهلُ الجاهلينَ، ولا عصيانُ العاصينَ، وهو يشاهد جحود الكفار، وفجور الأشرار، وكيد الفجار، ولكنه لا يعجل بالعذاب، ولا يسارع في الانتقام، مع كمال قدرته وقوته وجبروته، فيؤخر وينذر، ويؤجل ولا يعجل، ويستر ويغفر، وهو الحليم الذي يدر على خلقه النعم الظاهرة والباطنة، مع معاصيهم وكثرة زلاتهم، وحلمه ليس عن عجز أو ضعف، حاشاه -سبحانه-، بل يحلم عن مقابلة العاصين بعصيانهم، ويستعتبهم كي يتوبوا، ويمهلهم كي ينيبوا، وليقيم الحجة عليهم، بأنهم لم يصلحوا قلوبهم وأعمالهم، بعد حلمه عليهم، ولو أنَّه -تعالى- عاجل العصاة بالعقوبة لما بقي أحد على وجه الأرض، قال -تعالى-: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}(النَّحْلِ:61)، وقال -عز وجل-: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا}(الْكَهْفِ: 58)، وعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، قال ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}(هُودٍ: 102)».
تذكرة لمن فرط
إن الله -عز وجل- لا يغيب عنه من أمرنا شيء؛ فهو -سبحانه- مطلع على أعمالنا، في كل وقت وحين، وعالِم بجميع أحوالنا في كل ساعة وفي كل نفس، وكل طرفة عين، قال -تعالى-: {وَمَا تَكُونُ في شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ في الْأَرْضِ وَلَا في السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا في كِتَابٍ مُبِينٍ}(يُونُسَ: 61).
وفي هذا تذكرة لكل من استحوذ عليه الشيطان، وسوَّلَتْ له نفسه العصيان، أن الله -جل وعلا- كان معه حين عمل السيئات، وكان معه عندما فرَّط في جنب الله وارتكب الموبقاتِ، وهو -سبحانه- لو أراد أَخْذَهُ في وقته أَخَذَهُ، ولم يُمهله حتى يوافي أجلَه، كان يقدر أن يأخذه وهو يخالف الحقَّ ويتبع غيرَ سبيل المؤمنينَ، وهو يتهاون في أداء الصلاة وبحقها يستهين، وهو يُطلِق بصرَه في الحرام، ولا يصون سمعَه عن استماع اللهو والباطل وكل ما يشين، وهو يجلس مجالس أصحاب السوء ويخوض مع الخائضين، وهو يتعاظم في نفسه ويتفاخر على غيره، ويحقر الضعفاء والمساكين، وهو يشهد الزور ويفتري الكذب ويسلك طريق البغاة المعتدين، وهو يأكل أموال الناس بغير حق ويجحد الحقوق، ويسعى في الأذى والضرر بالآخَرين، وهو يتطاول على والديه ويجحد حقهما، غير مبال بجرمه وتوعُّد العاقِّين، وهو يرتكب قبيح الفعَّال، وما يوجب الإثم والنكال، فلم تعجل عقوبته وهو على هذا الحال، بل أملى له شديد المحال؛ لذا ينبغي لمن كان هذا حاله أن يستيقظ من غفلته، ويفيق من سكرته، وأن يستشعر فضل ربه عليه وعظيم منته، وكأن لسان حاله يقول: ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني!.
حلم الله وسع كل الخلق
إن ربنا هو الحليم، له الحلم الكامل، وسع حلمه أهل الكفر والفسوق والعصيان، قال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}(فَاطِرٍ:41)، قال السعدي -رحمه الله-: «يُخبِر -تعالى- عن كمال قدرته وتمام رحمته، وسعة حِلمِه ومغفرته، وأنَّه -تعالى- يمسك السماوات والأرض عن الزوال؛ فإنهما لو زالتا ما أمسكهما أحد من الخلق، ولعجزت قدرتهم وقواهم عنهما، ولكنه -تعالى- قضى أن يكونا كما وجدا؛ ليحصل للخلق القرار والنفع والاعتبار، وليعلموا من عظيم سلطانه وقوة قدرته ما به تمتلئ قلوبهم له إجلالًا وتعظيمًا، ومحبة وتكريمًا، وليعلموا كمال حلمه ومغفرته، بإمهال المذنبين، وعدم معاجلَته للعاصين، مع أنَّه لو أمَر السماءَ لحصبَتْهم، ولو أَذِنَ للأرض لابتلعتُهم، ولكِنْ وسعَتْهم مغفرتُه، وحِلمُه، وكرمُه؛ {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}(الْإِسْرَاءِ:44)».
تهديد الجاحدين
لما عظم جرم الكفرة المكذبينَ بالمعاد؛ الجاحدينَ البعث بعد الممات، المستهزئينَ بالرسول - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا جاءهم بالأخبار الصادقة، هددهم -سبحانه- بسوء العاقبة، فقال: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ}(سَبَأٍ: 9)؛ أي: لو شئنا لفعلنا بهم ذلك لظلمهم وقدرتنا عليهم، ولكن نؤخر ذلك لحلمنا وعفونا، وقال -تعالى-: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ في تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}(النَّحْلِ: 45-47)، قال ابن كثير -رحمه الله-: «يُخبِر -تعالى- عن حلمه وإمهاله وإنظاره العصاة، الذين يعملون السيئات، ويدعون إليها، ويمكرون بالناس في دعائهم إياهم، وحملهم عليها، مع قدرته على أن يخسف الله بهم الأرض، أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، أي: من حيث لا يعلمون مجيئه إليهم، ثم قال -تعالى-: {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}(النَّحْلِ: 47)، أي: حيث لم يعاجلكم بالعقوبة.
ما أعظم ربنا وما أكرمه!
مَنْ أعظمُ مِنْ ربِّنا جودًا وكرمًا؟! ومَنْ أوسعُ منه مغفرةً وحلمًا؟! كم من خير منه على خلقه نازل! وكم من شر إليه صاعد! يعصيه العاصون ويتجرأ عليه المتجرئون وهو شاهد غير غائب، ولأفعالهم مراقِب، يكلؤهم في مضاجعهم كأنهم لم يعصوه، ويتولَّى حفظَهم كأنهم لم يخالفوه، -سبحانه- وبحمده على حلمه بعد علمه، -سبحانه- وبحمده على عفوه بعد قدرته.
ما أصبر ربنا على من عصاه!
يتجلَّى حِلمُ اللهِ في صبره -سبحانه- على خلقه؛ فعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: «لا أحدَ أصبرَ على أذًى يسمَعُه من الله -عز وجل-؛ إنه يُشرَك به، ويُجعَل له الولدُ، ثم هو يعافيهم ويرزقهم»، وقد خاطب الله أصحاب هذه الفرية العظيمة بأشد الإنكار، فقال -سبحانه-: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا }(مَرْيَمَ: 88-89)؛ فالأجرام العظام هالها تلك الكلمة الشنعاء، والمقالة الخبيثة النكراء، وهي نسبتهم لله الولد، -تعالى- وتقدس وتنزه عن ذلك علوًّا كبيرًا، قال ابن العربيّ -رحمه الله-: «ولولا أن البارئ -تبارك وتعالى- لا يضعه كفر الكافر، ولا يرفعه إيمان المؤمن، ولا يزيد هذا في ملكه، كما لا ينقص ذلك من ملكه لما جرى شيء من هذا على الألسنة، ولكنه القدوس الحكيم الحليم، فلم يبال بعد ذلك بما يقول المبطلون، فما أحلم الله على من عصاه! لكن جهل العاصين قد يبلغ مداه، فالمشركون من عتوهم وعنادهم وشدة تكذيبهم استفتحوا على أنفسهم، واستعجلوا العذاب، وتقديم العقوبة، قال -سبحانه-: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}(الْأَنْفَالِ:32)، وكان الأولى لهم أن يقولوا: «اللهمَّ إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له، ووفقنا لاتباعه»، إنه الحليم -سبحانه- قال الطبري -رحمه الله-: «إن الله كان حليما لا يعجل على خَلْقه، الذين يخالفون أمرَه، ويكفرون به، ولولا ذلك لَعاجَلَ هؤلاء المشركينَ الذين يَدْعُونَ معه الآلهةَ والأندادَ بالعقوبة، وقوله: {غَفُورًا} ساترًا عليهم ذنوبهم، إذا هم تابُوا منها بالعفو منه لهم».
الحذر من الاغترار بحلم الله وكرمه!
إن الله -تعالى- يقول: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}(الِانْفِطَارِ:6)؛ أي شيء خدعك وجرأك على عصيانه، وجعلك تقصر في حقه، وتتهاون في أمره، وهو ربك الكريم، الذي أغدق عليك من كرمه وفضله وبره، فحذار أن تغتر عبد الله بكرم الله وإمهاله وحلمه، فإن ذلك لا يدعو المسيء إلى الاغترار بما هو عليه، بل يستوجب خشية الله والإنابة إليه، ويستدعي الجدّ في طاعته، وعدم الانهماك في معصيته.
الحلم يستوجب المحبة
حِلمُ اللهِ -تعالى- يستوجِب محبتَه؛ لأن الحليم محبوب، فكيف بربنا الجليل -سبحانه-، الموصوف بكمال الحِلم وتمامه، كما أن الحلم من الخصال العظيمة، التي يريد الله من عباده أن يتخلقوا بها، قال القرطبي -رحمه الله-: «فمن الواجب على مَنْ عرَف أن ربَّه حليم على مَنْ عصاه، أن يحلم هو على مَنْ خالَف أمرَه، فذاكَ به أَولى حتى يكون حليمًا، فينالَ مِنْ هذا الوصفِ بمقدارِ ما يَكسِر سورةَ غضبِه، ويرفعَ الانتقامَ عمَّن أساء إليه، بل يتعوَّد الصفحَ حتى يعودَ الحلمُ له سجيةً... قال -تعالى-: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}(الشُّورَى: 43)»، فكما تحب أن يحلم عليك ربك، فاحلم أنت على من تحت يديك؛ لأنك متعبد بالحلم مثاب عليه.
لاتوجد تعليقات