
تفسير آيات الصيام (1) الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة
هذه حلقات مختصرة تضمنت شرحاً موجزاً لآيات الصيام الواردة في القرآن الكريم، وما حوته من أحكام شرعية متعلقة بهذه العبادة العظيمة، فإن الاعتناء بتفسير كتاب الله -تعالى- من أجل العلوم وأنفعها وأشرفها؛ إذ إن شرف العلم بشرف مُتَعَلَّقِه، وليس بعد شرف القرآن شرف، فهو كلام الله المنزل، ومصدر التشريع الأول.
وجدير بالمسلم وهو في شهر رمضان أن يتعلم أحكام الصيام ويتدبر الآيات التي نزلت به وتعلقت بها أحكامه، حتى يؤدي هذا الركن علىَّ الوجه الذي أمر الله به. ولقد مَنَّ الله علي بشرح أحاديث الصيام من كتاب: (بلوغ المرام من أدلة الأحكام) لابن حجر العسقلاني -رحمه الله- التي كان لها القبول والذكر الحسن عند الناس وطلبة العلم، حتى شجعني هذا الأمر على أن أكتب هذه الرسالة المختصرة التي تضمنت صفحاتها شرحاً موجزاً لآيات الصيام الواردة في القرآن الكريم، وما حوته من أحكام شرعية متعلقة بهذه العبادة العظيمة، وقد ذهبت في شرحها مذهب التفسير التحليلي فجعلت أذكر الآية القرآنية كما هي في المصحف، ثم أنتقي الألفاظ الغريبة على السمع أو الموهمة أكثر من معنى وأشرحها شرحا لغوياً معتمدا على المعاجم العربية، أو أبين معناها الشرعي الخاص إن وجد معتمداً على أقوال أشهر المفسرين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ثم إن كانت الآية نزلت لسبب معين فإني أذكره نقلاً من بطون كتب السنة أو التفسير بالمأثور إن كان صحيحاً أو حسن الإسناد.
ثم أذكر معنى الآية إجمالاً على طريقة التفسير الإجمالي، ثم أنتقل إلى صلب الموضوع والهدف من هذا الشرح وهو الأحكام الفقهية في الآية فأتناول بالشرح المفصل ما حوته الآية من هذه الأحكام وغيرها مما دل عليه ظاهرها، أو أشارت إليه، أو استنبطه العلماء منها، ثم أختم الشرح ببعض الفوائد المتعلقة بالآية إن وجدت والتي لا صلة لها بالأحكام الفقهية كالفوائد الأصولية أو السلوكية وغيرها.وقد اعتمدت كثيرا على التفاسير الفقهية والتحليلية في شرح الآيات كتفسير القرطبي وابن العربي والشوكاني وتفسير ابن عثيمين وغيرهم ممن أثبته في حواشي هذا الشرح، وعرضت كثير من النوازل العصرية المتعلقة بالصيام مع بحثها والترجيح فيها متى ما لاح لي الحق واطمأنت إليه نفسي وسبقني إليه سلف من العلماء. راجيا من الله تعالى الهداية والقبول، وبركة العمر وحسن العاقبة، وأن ينفع بهذه الرسالة كاتبها وقارئها والله الهادي إليه سبيلاً.
فضل الصيام
جعل الله -تعالى- الصيام ركنا من أركان الإسلام، وجعل الصوم من أفضل القربات وأجل العبادات التي يتقرب بها المتقربون إلى ربهم، ويكفي في أهمية هذه العبادة خصائصها وآثارها العظيمة في الدنيا والآخرة , من تزكية النفوس وإصلاح القلوب وحفظ الجوارح والحواس من الفتن والشرور, وتهذيب الأخلاق. وفيها من الإعانة على تحصيل الأجور العظيمة, وتكفير السيئات المهلكة, والفوز بأعالي الدرجات في الجنة. وقد حوى الصيام فضائل كثيرة يقصر المقام عن استقرائها وذكرها، أذكر منها ما لاح من ظواهر الأدلة من الكتاب والسنة، وما خفي فهو أكثر من ذلك: { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} (الإسراء:85).
1- أنه ركن من أركان الإسلام
فقد أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر، -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان» (1) وقوله: «بني الإسلام على خمس» أي أن أعمال الإسلام خمس هي له كالدعائم بالنسبة للبناء لا وجود له إلا بها.
2- أنه العبادة التي اختصها الله لنفسه
ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قال الله: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به...» (2) ولمسلم: «كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به..» (3) قال: بن عبد البر كفى بقوله الصوم لي فضلا للصيام على سائر العبادات» (4).
3- أن الله جعله سببا للمغفرة والأجر العظيم -
قال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴿٣٥﴾} (الأحزاب: 35). فالصيام من أكبر أعمال الخير والبر التي أعد الله لعامليها أمرين عظيمين:
- {مَّغْفِرَةً}، وذلك بغفران الذنوب أي بسترها وعدم المحاسبة عليها، ونُكرت المغفرة لتعظيم أمرها، فهي إذا ً مغفرة شاملة.
- {وَأَجْراً عَظِيماً}، وذلك في جنات النعيم مع الكرامة في موقف الحساب(5).
4- الصيام سبيل إلى التقوى
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183). قال البغوي: «{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} يعني بالصوم؛ لأن الصوم صلة إلى التقوى؛ لما فيه من قهر النفس وكسر الشهوات»(6)، وقال ابن كثير: «لأن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان؛ ولهذا ثبت في الصحيحين: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» (7).
5- الصيام جنة من عذاب النار.
جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: «الصيام جنة فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم مرتين «(8) ومعنى (الصيام جنة) أي وقاية من النار. قال المناوي: أي وقاية (من النار) لصاحبه؛ لأنه يقيه ما يؤذيه من الشهوات. وقال ابن العربي: إنما كان جُنَّة من النار؛ لأنه إمساك عن الشهوات، والنَّار محفوفة بها.(9) وقد تنازع العلماء هل الصيام أوقى للإنسان من النار أم الصلاة ؟ وقد أشار ابن عبد البر إلى ترجيح الصيام على غيره من العبادات فقال:» حسبك بكون الصيام جنة من النار فضلًا» وقال ابن حجر: المشهور عند الجمهور ترجيح الصلاة.(10)
6- باب الريان للصائمين:
عن سهل -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: «إن في الجنة بابا يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد «(11) قال ابن حجر: الريان: من الري اسم علم على باب من أبواب الجنة يختص بدخول الصائمين منه، وهو مما وقعت المناسبة فيه بين لفظه ومعناه؛ لأنه مشتق من الري وهو مناسب لحال الصائمين (وقد ورد) أن من دخله لم يظمأ قال القرطبي اكتفى بذكر الري عن الشبع؛ لأنه يدل عليه من حيث إنه يستلزمه، قلت: أو لكونه أشق على الصائم من الجوع.(12)
7- خلوف فم الصائم
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم : «والذي نفس محمد بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله، يوم القيامة، من ريح المسك»(13) قال ابن عبد البر: قوله[: «لخلوف فم الصائم»...، يريد أزكى عند الله وأقرب إليه من ريح المسك عندكم، يحضهم عليه ويرغبهم فيه، وهذا في فضل الصيام وثواب الصائم(14).
8- شفاعة الصيام:
عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبيصلى الله عليه وسلم : «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة؛ يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان»(15) قال الملا علي قاري: «وهذا دليل على عظمتهما» (16).
9- الصيام لا يعدله شيء:
فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلىالله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله مُرْني بأمر آخذه عنك، قال: «عليك بالصيام فإنه لا عدل له»(17) قال السندي: «فإنه لا مثل له» في كسر الشهوة ودفع النفس الأمّارة والشيطان، أو لا مثل له في كثرة الثواب.(18) وقال المناوي: فإنه لا عدل له؛ إذ هو يقوي القلب والفطنة، ويزيد في الذكاء ومكارم الأخلاق، وإذا صام المرء اعتاد قلة الأكل والشرب، وانقمعت شهواته، وانقلعت مواد الذنوب من أصلها، ودخل في الخير من كل وجه، وأحاطت به الحسنات من كل جهة. (19)
10- الصوم كفارة للسيئات:
بوب الإمام البخاري في صحيحه باب (الصوم كفارة)، ثم ذكر الحديث بسنده عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال عمر رضي الله عنه:من يحفظ حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قال حذيفة: أنا سمعته يقول: «فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصيام والصدقة» قال: ليس أسأل عن هذِهْ، إنما أسأل عن التي تموج كما يموج البحر، قال: وإن دون ذلك باباً مغلقاً، قال: فيفتح أو يكسر؟ قال: يكسر، قال: ذاك أجدر ألا يغلق إلى يوم القيامة، فقلنا لمسروق: سَلْهُ، أكان عمر يعلم من الباب؟ فسأله فقال: نعم، كما يعلم أن دون غد الليلة»(20) قال ابن عبد البر: وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ إِنَّ الْمَعَاصِيَ كُلَّهَا فِتْنَةٌ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ مَا لَمْ يُوَاقِعِ الْكَبَائِرَ، دَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}.(21) قال القاري: «والمعنى أن الرجل يبتلى ويمتحن في هذه الأشياء، ويسأل عن حقوقها، وقد يحصل له ذنوب من تقصيره فيها، فينبغي أن يكفرها بالحسنات؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيّئَـاتِ} (هود:144)(22).
الهوامش:
1- رواه البخاري (8) ومسلم (16).
2- البخاري (1904) ومسلم (1151).
3- رواه مسلم (1151).
4- نقله ابن حجر في فتح الباري 4/108.
5- الصيام ورمضان في السنة والقرآن (ص: 119 – 120).
6- تفسير البغوي 1/196.
7- تفسير ابن كثير 1/479.
8- البخاري (1894) ومسلم (1151).
9- حكاه ابنه في طرح التثريب في شرح التقريب 4/91.
10- نقله ابن حجر في فتح الباري 4/104.
11- رواه البخاري (1896) ومسلم 1152).
12- فتح الباري 4/111.
13- البخاري (1894) ومسلم (1151).
14- الاستذكار 3/375.
15- رواه أحمد في مسنده (6626)، والحاكم في المستدرك (2036) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (984).
16- المرقاة شرح المشكاة (4/454).
17- رواه ابن حبان (3426) والنسائي (2222) وصححه الألباني
18- حاشية السندي على سنن النسائي 4/165.
19- فيض القدير 4/330.
20- صحيح البخاري (1895).
21- التمهيد 17/393.
22- مرقاة المفاتيح 8/3426.
لاتوجد تعليقات