المنظور العلماني للنظام السياسي في الإسلام
- الخلافة ليست شأنًا دنيويا بحتًا بل هي وسيلة شرعية لإقامة الدين وحفظ الشريعة وقد أجمع الصحابة على وجوبها بعد وفاة النبي - صلى الله علىه وسلم-
- الفكر العلماني الحديث لا يصرّح بفصل الدين عن الدولة لكنه يُفرغه من محتواه الشرعي بزعم المرونة والتطور
- وضع الإسلام نظامًا سياسيا قائمًا على أصول دائمة: (التوحيد، والشورى، والعدل، والطاعة في المعروف) وترك الوسائل التنفيذية للاجتهاد فوجود أصول ثابتة لا يناقض الصلاحية الزمانية بل هو الضمان لاستمراريتها
- النظام السياسي في الإسلام ليس قالبًا جامدًا ولا تصورًا بشريا متبدلًا بل هو منهج رباني متكامل يجمع بين الثبات في الأصول والمرونة في الوسائل
شهدت الساحة الفكرية الإسلامية في العصر الحديث ظهور أصوات تزعم أن الإسلام لم يأتِ بنظام سياسي محدد، وأنه اقتصر على وضع مبادئ عامة في الحكم يمكن تطبيقها بمرونة في كل زمان ومكان، ويُعدّ هذا الاتجاه امتدادًا لفكر علي عبد الرازق في كتابه: (الإسلام وأصول الحكم)، الذي زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن حاكمًا بالمعنى السياسي، بل قائدًا دينيا فحسب، وأن ما ظهر في سيرته من ممارسات سياسية لم يكن إلا وسائل لخدمة الدعوة وتثبيت الدين، ومن هنا انطلقت الفكرة العلمانية الحديثة التي تحاول -بأسلوب ناعم- نفي الطابع الشرعي للحكم الإسلامي، والإيحاء بأن الإسلام دين عبادة وأخلاق لا دولة ونظام.
مقدمات مهمة
وقبل الخوض في الحديث عن النظرة العلمانية لعلاقة الإسلام بالسياسة، لا بد من تمهيدٍ يوضح كمال هذا الدين وشموله لجميع جوانب الحياة، وبيان حقيقة العلمانية والأسس التي قامت عليها، حتى يتبين وجه المفارقة بين منهجٍ ربانيٍّ كاملٍ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، وبين فكرٍ وضعيٍّ محدودٍ نشأ بعيدًا عن هدي الوحي ونور الرسالة.شمولية الإسلام
إنَّ من أبرز خصائص هذا الدين العظيم أنه دين شاملٌ متكاملٌ، يَمسّ كل جانبٍ من جوانب الحياة، ويُوجِّه الإنسان في سلوكه، ويهديه في فكره، ويضبط علاقاته في مجتمعه، ويقيم نظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي على أسسٍ من العدل والإحسان، فلا يترك جانبًا من حياة الفرد أو الجماعة إلا وجعل له توجيهًا وهديًا.أولاً: الإسلام منهج حياة
الإسلام ليس مجرد شعائر تعبدية تؤدى في المساجد، بل هو منهج حياة متكامل؛ فهو ينظّم علاقة الإنسان بربه، وعلاقته بنفسه، وبأسرته، وبمجتمعه، وبالدولة، وبالعالم من حوله. ففي المجال الاجتماعي، وضع الإسلام قواعد الأسرة وبنى العلاقات على الرحمة والمودة، ودعا إلى التكافل والإحسان وصيانة الحقوق. وفي المجال الاقتصادي، رسم منهجًا يقوم على العدل ومنع الاستغلال والاحتكار، فحرم الربا والظلم وأمر بالزكاة والإنفاق المشروع. وفي المجال السياسي، قرر الإسلام أن الحكم أمانة ومسؤولية، وأن على الحاكم أن يقيم العدل ويحتكم إلى شرع الله، قال -تعالى-: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} (يوسف:40)، وقال -تعالى-: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} (المائدة:49)، وهكذا تتجلى شمولية الإسلام في توجيه الفرد والمجتمع نحو الخير والصلاح في الدنيا والآخرة.ثانياً الإسلام منهج كامل
لقد أعلن الله -تعالى- اكتمال هذا الدين في أواخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، في قوله -جل شأنه-: {اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام دينًا} (المائدة:3)، وهذه الآية كانت من آخر ما نزل من القرآن، لتعلن للبشرية أن الدين قد اكتمل، فلا زيادة بعده ولا نقصان، وأن الشريعة الإسلامية وافيةٌ بكل ما تحتاجه الأمة في كل زمان ومكان، قادرة على مواكبة التطورات دون أن تفقد أصالتها أو مقاصدها؛ فما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - خيرًا إلا دلّ الأمة عليه، ولا شرًّا إلا حذرها منه، حتى قال في الحديث الصحيح: «تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك».ثالثًا: الإسلام صالح لكل زمان ومكان
من دلائل كمال الدين وشموله أن نصوصه ومقاصده صالحة لكل العصور؛ إذ بُنيت على أصولٍ عامةٍ وقواعد كليةٍ تستوعب المتغيرات وتضبط المستجدات؛ فالإسلام لا يتصادم مع التطور، بل يوجّهه، ولا يرفض التجديد، بل يضبطه بضوابط الشرع ومقاصده. إنه دين الفطرة، ودين الوسطية والاعتدال، جاء لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد، فحفظ الدين والنفس والعقل والمال والعِرض، وأقام التوازن بين الروح والمادة، وبين الدنيا والآخرة، وبين الفرد والمجتمع.- وخلاصة القول: إن الدين الإسلامي دين شامل كامل، استوعب جميع مجالات الحياة، ونظّمها بأعدل تشريع وأسمى نظام، وقد أتم الله نعمته على هذه الأمة ببعثة نبيها محمد -[-، وبتنزيل هذا الدين الكامل الذي لا يحتاج إلى زيادة بشر، ولا يقبل تحريفًا أو تبديلًا، فمن تمسّك به نجا، ومن أعرض عنه ضلّ، قال -تعالى-: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} (طه: 123).

تعريف العلمانية
العَلمانية مذهب فكري يقوم على فصل الدين عن شؤون الحياة العامة، ولا سيما عن الدولة والتشريع؛ بحيث تُدار المؤسسات العامة والسياسية بمعزل عن المرجعية الدينية أو التوجيه الشرعي، وقد نشأت العلمانية في البيئة الأوروبية إبّان العصور الوسطى، نتيجة الصراع الحاد بين الكنيسة والسلطة الزمنية، وما رافقه من تسلط رجال الدين على الحياة الفكرية والعلمية والسياسية، فكانت دعوات الإصلاح والنهضة ردَّ فعلٍ على هذا الواقع، مطالِبةً بتحرير الفكر والعلم والتشريع من هيمنة الكنيسة. ومع تطور الفلسفة الحديثة، ولا سيما مع فلاسفة التنوير أمثال فولتير وروسو وديكارت، ترسخت الفكرة العلمانية منهجا يرى أن العقل والتجربة الإنسانية هما المرجع الأعلى في تنظيم الحياة، وأن الدين -مهما كانت قدسيته -يجب أن يُحصر في المجال الفردي والروحي دون أن يتجاوز إلى المجال العام. وهكذا تطورت العلمانية من كونها حركة تحرر من سلطة الكنيسة إلى أن أصبحت مذهبًا شاملاً يوجّه الرؤية إلى الإنسان والكون والحياة، قائما على المرجعية الدنيوية التي تجعل الإنسان محور الوجود، وتقصي الوحي عن مجالات التشريع والسياسة والاجتماع. وخلاصة القول: إن العلمانية منهج يقوم على إقصاء الدين عن توجيه الحياة العامة، ويجعل المرجعية النهائية للعقل والخبرة البشرية دون الرجوع إلى الوحي أو التشريع الإلهي، وهي في جوهرها تصورٌ للحياة يقوم على الإنسان مركزًا ومعيارا أعلى لكل شيء.طبيعة النظرة العلمانية
يرى أصحاب الفكر العلماني أن الإسلام لم يضع نظامًا سياسيا تفصيليا، وإنما اكتفى بمبادئ عامة مثل:- الشورى، والعدل، والمساواة، والحرية.
- مسؤولية الحاكم ومساءلته أمام الأمة.
- حسن معاملة الأقليات الدينية والسياسية.
أبرز الشبهات
- شبهة: «صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان». يقولون إن تحديد نظام حكم ثابت يناقض مبدأ الصلاحية المطلقة للشريعة؛ لأن الزمن يتغير والنظم السياسية تتبدل، فلو فرض الإسلام نظامًا واحدًا لكان المسلمون بين خيارين: الجمود والتخلّف، أو ترك الشريعة ومسايرة التطور العصري.
- شبهة: شهادة الواقع بعدم وجود نظام محدد: يحتجون بأن القرآن لم يحدد مدة ولاية الحاكم ولا كيفية عزله، وأن الخلفاء الراشدين تولوا الحكم بطرائق مختلفة، ما يدل - بزعمهم - على عدم وجود نموذج واحد للحكم.
- شبهة: أن الخلافة شأن دنيوي لا ديني: يقولون: إن الخلافة نظام دنيوي تنظمه المصالح لا النصوص، ويستدلون بحديث «أنتم أعلم بأمر دنياكم»، معتبرين أن السياسة من شؤون الدنيا التي تركها الإسلام للعقل البشري.
التحليل النقدي للمقولة العلمانية
إن القول: بأن الإسلام لم يأتِ بنظام سياسي محدد هو في جوهره صيغة مخففة من العلمانية الصريحة التي تفصل الدين عن الدولة، فأصحاب هذا الاتجاه يفرغون السياسة الشرعية من مضمونها العقدي، ويجعلون مرجعيتها بشرية محضة، مع الاحتفاظ بغطاء ديني شكلي يجمّل المضمون العلماني، وهكذا تُصبح مفاهيم كالحرية والعدالة والشورى أدوات تُستخدم خارج السياق الشرعي، فالسياسة في الإسلام لا تنفصل عن العقيدة؛ لأنها عبادة لله وتحكيم لشرعه، وليست مجرد إدارة دنيوية محايدة.النتائج
- الفكر العلماني الحديث لا يصرّح بفصل الدين عن الدولة، لكنه يُفرغه من محتواه الشرعي بزعم المرونة والتطور.
- مقولة: «الإسلام لم يأتِ بنظام سياسي محدد» هي إعادة إنتاج علمانية ناعمة بصياغة فكرية جديدة.
- النظام السياسي في الإسلام يقوم على ثوابت عقدية مرجعيتها الأساسية القرآن الكريم والسُنَّة النبوية.
- اختلاف أساليب الحكم في عهد الراشدين لا يدل على غياب النظام، بل على مرونة الوسائل في ظل الثوابت.
- حديث (أنتم أعلم بأمر دنياكم) لا يُستدل به على فصل الدين عن السياسة.
التوصيات
- دراسة الفكر العلماني دراسة نقدية لبيان تناقضه مع أصول الإسلام.
- تعميق فقه السياسة الشرعية في الجامعات والمراكز البحثية.
- تأكيد شمول الشريعة لكل مجالات الحياة، بما فيها الحكم والسياسة.
- إبراز النموذج التطبيقي للخلافة الراشدة بوصفه أرقى مثال لنظام الحكم الإسلامي.
- تحصين الوعي العام من الشعارات الزائفة التي تفصل بين الدين والحياة العامة.
الخاتمة
إن النظام السياسي في الإسلام ليس قالبًا جامدًا ولا تصورًا بشريا متبدلًا، بل هو منهج رباني متكامل يجمع بين الثبات في الأصول والمرونة في الوسائل، وإن مقولة: «الإسلام لم يأتِ بنظام حكم محدد» هي باب واسع للعلمنة المقنّعة، تستهدف نزع القداسة عن الشريعة في مجال الحكم؛ فالواجب على الأمة أن تعيد بناء وعيها السياسي على أساس أن السياسة الشرعية ليست فنًّا دنيويا، بل عبادة تُقام لتحقيق مراد الله في الأرض، قال -تعالى-: {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (المائدة:49).
لاتوجد تعليقات