رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: هيام الجاسم 4 نوفمبر، 2024 0 تعليق

المجتمعات بين انقراض الأمانة وتفشّي الخيانة!

  • دنيا الأمانة وعالم الائتمان جميل وطيب مقامه فهو راحة وطمأنينة للمجتمع وللفرد ورفعة شأن لأصحابه
  • المسلمون يمتلكون روادع شرعية من عند الله تُحدث في النفس انضباطا ذاتيا يجعل من المسلم مثاليا جدا في تعاملاته كافة
  • لا يمكن للإنسان أن يكون أمينا إلا وهو يتحلّى بالإيمان بالله وبأركانه كافة ويكون متيقّنا بما عند الله من أجر وثواب فلا أمانة لمن لا إيمان له كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم
  • خلق الأمانة من الصفات التي يستحسنها كل ذي عقل بفطرته ويستقبح خلافها وضدها من الخيانة والغدر والخديعة فالنفس البشرية تنفر طَبَعياّ وجِبِلّة من قبائح الصفات
 

عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: حَدَّثَنَا رَسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثَيْنِ، رَأَيْتُ أحَدَهُما وأَنَا أنْتَظِرُ الآخَرَ: حَدَّثَنَا: أنَّ الأمَانَةَ نَزَلَتْ في جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ وحَدَّثَنَا عن رَفْعِهَا قالَ: يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأمَانَةُ مِن قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أثَرُهَا مِثْلَ أثَرِ الوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى فِيهَا أثَرُهَا مِثْلَ أثَرِ المَجْلِ، كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ علَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وليسَ فيه شيءٌ، ويُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، فلا يَكَادُ أحَدٌ يُؤَدِّي الأمَانَةَ، فيُقَالُ: إنَّ في بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أمِينًا، ويُقَالُ لِلرَّجُلِ: ما أعْقَلَهُ وما أظْرَفَهُ وما أجْلَدَهُ، وما في قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِن إيمَانٍ ولقَدْ أتَى عَلَيَّ زَمَانٌ، ولَا أُبَالِي أيُّكُمْ بَايَعْتُ، لَئِنْ كانَ مُسْلِمًا رَدَّهُ عَلَيَّ الإسْلَامُ، وإنْ كانَ نَصْرَانِيًّا رَدَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ، وأَمَّا اليَومَ: فَما كُنْتُ أُبَايِعُ إلَّا فُلَانًا وفُلَانًا.

        هكذا وصفت رواية الحديث أحوال الناس حين تنقرض الأمانة، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال» فالإنسان مفطور مجبول على الانضباط بالأمانة وأن يكون أميناً؛ إذ الأمانة خُلُق فاضل محمود مطلوب مع كلّ نَفَسٍ من أنفاس بني الإنسان، فلقد اتفقت جميع الأمم والخَلْق أنّ الأمانة مطلوبة فضلا عن أنها واجبة وأنّ الخيانة ضدها منبوذة مرفوضة بل ومحرّمة، وإنّ شيوع وتفشّي الخيانة في البيوت والتعاملات وفي التجارة والوظائف لدلالة كبرى على انحدار وانخفاض مستوى الأمانة إن لم يكن تلاشيها التدرّجي الذي يذكره الصحابي حذيفة.

الحذر والقلق

        أعزائي القراء، ونحن في زماننا هذا نلاحظ كثيرا أنّ غالب الناس يبدو عليهم الحذر والقلق في اختيار من يتعاملون معه ولاسيما من العمّال في المهن الحرفية الحرّة من بيع وشراء وبناء وسباكة ونجارة وما إلى ذلك من الحرف اليدوية، تجدهم يتواصون فيما بينهم، يسألون ويتحرّون ويطلبون الصادق الأمين المتقن النّصوح في عمله  ولايسلّمون العمل لأيّ شخص، فقد يخون أمانة المهنة التي يؤديها وقد يطلب أجرا فوق ما يستحق لإنجاز العمل أو يكون من السرّاقين وغيرها من المحاذير والمخاوف، حتى صار الناس لا يجرؤون على الخوض في أي مجال مع آخرين بدون معرفة مسبقة بهؤلاء، كيف هي أمانتهم في العمل؟

النفس الأمينة

        عزيزي القارئ، عزيزتي القارئة، إنّ النفس الأمينة عقلها مؤتمن وقلبها مليء بالائتمان على كل شيء ولكل شيء، بل هي مصطبغة بالأمانة حتى تجعل الناس يشعرون بالأمن والأمان النفسي معها، فلا يمكن للإنسان أن يكون أمينا إلا وهو متحلٍّ بالإيمان بالله وبأركان الإيمان كفة، ومتيقّن بما عند الله من أجر وثواب، فلا أمانة لمن لا إيمان له كما أخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم .

شبهة عن الأمانة

         ومن جهة أخرى لنتفطّن وننتبه من أنْ يُلقي عليك امرؤ شبهة عن أمانة الناس في دول الغرب وأنهم مؤتمنون ومخلصون بينما المسلمون يفتقدون الأمانة، فدعْك من قوله ذاك، فهؤلاء القوم في دول الغرب يحكمهم القانون الصارم المحكم ذو الفعالية العالية والتطبيق الواقعي الرادع للشعوب، فلذلك هم من أحرص الناس على العمل وفق القانون والقواعد وعدم مخالفته في التعاملات التي يمنعها قانون بلادهم خشية الوقوع تحت طائلة المساءلة القانونية. ونحن المسلمين نمتلك روادع شرعية من عند الله، تشكّل في النفس انضباطا ذاتيا، يجعل من المسلم مثاليا جدا في تعاملاته، ولكن كلما نقص وانخفض الاعتبار الديني والارتباط بمنظومة الحلال والحرام والواجب في نفس المسلم، وقلّ يقينه وإيمانه بجزاء الله وعقوبته التفت للواقع فاستسهل ترك الأخلاق والانحراف عن التعامل من خلالها ظنّاً منه أنه بعيد عن مساءلة القانون في البلاد له، ويظل سنوات وسنوات وهو مخالف للقانون ثم في غفلة منه يُقبض عليه ولات حين ندم ولا عزاء للمتردّية والنطيحة حينما تفقد رادع رب العباد في نفسها!

دنيا الأمانة

      دنيا الأمانة وعالم الائتمان جميل وطيب مقامه فهو راحة وطمأنينة للمجتمع وللفرد ورفعة شأن لأصحابه ولو يعلم الخائنون وفاقدو الأمانة تلك الراحة النفسية والهناء القلبي الذي يحيا به الأمناء في الدنيا، لجالدوهم ونافسوهم عليها! فمن عظيم شهرة النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل نبوّته أنه الصادق الأمين والناس في قريش أحبته لأمانته وصدقه، حتى أنهم كانوا -ولا سيما الذين بعد لم يسلموا- يودعون الودائع عنده حتى بعد نبوّته! واعجباً كيف يرفع الله قدر من كان رائدا في الانضباط الخُلُقي! فالأمانة تدخل في كل شأن، وأمرها عظيم، وهي في مقدمة الأخلاق وصدارتها ورأسها، وتكون دافعا لتعلم فقهيات الكتاب والسنة بتفاصيلها.

بين الخيانة والأمانة

        أعزائي القراء، إنّ خلق الأمانة من الصفات الحسنه التي يستحسنها كل ذي عقل بفطرته ويستقبح خلافها وضدها من الخيانة والغدر والخديعة؛ فالنفس البشرية تنفر طَبَعيا وجِبِلّة من قبائح الصفات، ولقد اتفقت الأمم قاطبة على ذلك الاستحسان الفطري والاستقباح الجِبِلّي؛ لذلك فجميع الناس الذين هم في دائرة الإسلام وخارجها يستنكف ويبغض من يغدر به ويخونه، وتجده يتودّد ويتلطّف ويحب من شيمته الأمانة وسمْته الأمان.

واقع الحال

        والمحزن والمخزي في واقع الحال، أنّ الأمانة مثلما نزلت في جذر قلوب الرجال؛ فكانت شائعة ومنتشرة ويتعامل الناس بها وعلى أساسها، إلا أنها أيضا كانت قد بدأت بالضعف والانحدار كما حدث شيئا فشيئا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي عهد الخلفاء، إلا أنها ظلت موجودة والناس تجد وبوفرة كاثرة الأمناء؛ فتختار من تتعامل معه في مصالحها،ولكن وكما جاء في الحديث النبوي أنه ما يلبث أن ينام الرجل النومة فتُقبَض الأمانة وذلك هو الرفع الأول لها، ويظل أثرها بمثابة «النّفِطة» المرتفعة يتجمّع تحتها من الجلد ماء (والذي يُعرف بين عامة الناس بالدّمّل)، وشيئا فشيئا حتى تزول الأمانة، فنبحث عن رجل أمين ولا نجد، ونحتار مع من نتعامل وبمن نثق ومن نأتمنه؟ اللهم إنّا نعوذ بك من الخيانة؛ فإنها بِئْست البطانة.

المحافظة على الحقوق

       أعزائي القراء، كل حق سواء مادي أم معنوي يجب المحافظة عليه؛ فهو أمانة والرجل الأمين والمرأة الأمينة هما اللذان يحفظان حرمات الناس، فالأمين هو الثقة الرّضي، فلقد قال ربنا -عز وجل-: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ} (القصص ٢٦)، وقال -عز من قائل-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء ٥٨)، والأمانة لها معانٍ عدّة، منها: أمانة القيام بالفرائض والتكليف بالقيام بشرع الله، {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (الأحزاب٧٢)، وأمانة الودائع التي أمنّها الناس عند امرئ ما لثقتهم به، وغيرها من أنواع الأمانة وأقسامها ومجالاتها، والبحث فيها يطول، والكتابة فيها أطول، ويلزمنا تعلّمها وتطبيق أحكامها كما يريد ربنا -عز وجل- من عباده.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك