
الضوابط الشرعيةفي الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم (2)
النُّصرة الشرعية الممدوحة للنبي صلى الله عليه وسلم لا تتحقق - على أرض الواقع - إلا بوجود الضوابط الشرعية، والوقوف على المقاصد الدينية، واستخراج الأحكام من الأدلة الصحيحة، واستظهار النتائج من المقدمات العلمية، والاتصاف بالتوسط الشرعي في الأقوال والأعمال، وأن يكون التعامل مع الأحداث خارجاً مخرج الصدق والديانة والأمانة، وأن تعطى الشريعة حقها من الرعاية والصيانة.
ونستكمل اليوم الكلام عن ذكر بعض الضوابط الشرعية المتبقية.
الضابط السادس: النصرة لا تتحقق إلا ببذل الواجب والمستحب من الدين بحسب الإمكان.
ندما يتحزّب أهل النفوس اللئيمة على نبي الهدى محمد صلى الله عليه وسلم ويظهرون ما تكنّه ضمائرهم من الشّر والحسد يدرك أهل العلم والإيمان وأصحاب البصيرة والعرفان -بفضل الله ورحمته- أنّ أقوى أسباب الانتصار وأعظم خطط الدفاع هي أنْ يرجع المسلمون إلى دينهم ويراجعوا واقعهم ويحاسبوا أنفسهم ويتعاملوا مع النازلة بفقه واتباع، وأنْ يبحثوا عن الأسباب الشرعية للنُّصرة ليصلوا إلى حقيقتين ثابتتين :
إحداهما: أنّ كمال النُّصرة في كمال الطاعة.
والثانية: أنْ ليس للمبطل الجاني صولةٌ وجولةٌ وحراكٌ إلا عند غفلة أهل الحقّ، كما قال تعالى في سياق أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعوَ ربه النّصر التام: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}(الإسراء:80-81).
يقول العلامة عبد الرحمن بن ناصر السّعدي : «هذا وصف الباطل، ولكنه قد يكون له صولة وروجان إذا لم يقابله الحق، فعند مجيء الحق يضمحل الباطل، فلا يبقى له حراك؛ ولهذا لا يروج الباطل إلا في الأزمان والأمكنة الخالية من العلم بآيات الله وبينات، فالانتصار للنبي صلى الله عليه وسلم والدفاع عنه والذب عن سنته لا تكون مجدية مالم يحرص المسلمون على الالتزام بدينهم والصبر على طاعة ربهم في السراء والضراء، ومقابلة العدو بترك الذنوب والإقلاع عن المعاصي وهجر الشرك والبدع؛ والاصطفاف للمدافعة والمناصرة خلف راية الكتاب والسنة ونبذ الفُرقة والاختلاف، يقول ابن القيم عند الكلام على طريقة المؤمنين في استجلاب النصر: لما علم القوم أن العدو إنما يدال عليهم بذنوبهم وأن الشيطان إنما يستزلهم ويهزمهم بها وأنها نوعان تقصير في حق أو تجاوز لحد، وأن النّصرة منوطة بالطاعة؛ قالوا: {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(آل عمران:147)، ثم علموا أن ربهم تبارك وإن لم يثبت أقدامهم وينصرهم لم يقدروا هم على تثبيت أقدام أنفسهم ونصرها على أعدائهم فسألوه ما يعلمون أنه بيده دونهم وأنه إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم لم يثبتوا ولم ينتصروا فوفوا المقامين حقهما مقام المقتضي وهو التوحيد والالتجاء إليه سبحانه ومقام إزالة المانع من النصرة وهو الذنوب والإسرا، فمن طلب الانتصار لنبي الرحمة صلى الله عليه وسلم - طلب وسائل شرعية ومقاصد سامية فلا سبيل له في تحقيق ذلك وتكميله إلا بأن تكون نصرته بالله ولله وفي الله، ويجتهد في عبادة ربه وطاعته بما أمكن، ويحرص على الاقتداء بالكتاب والسنة، ويتحرى العلم والعدل في معاملته للخلق، يقول ابن القيم- أيضا-: فإذا قام العبد بالحق على غيره وعلى نفسه أولا وكان قيامه بالله ولله لم يقم له شيء ولو كادته السماوات والأرض والجبال لكفاه الله مؤنتها وجعل له فرجا مخرجا، وإنما يؤتى العبد من تفريطه وتقصيره في هذه الأمور الثلاثة أو في اثنين منها أو في واحد؛ فمن كان قيامه في باطل لم ينصر وإن نصر نصراً عارضاً فلا عاقبة له وهو مذموم مخذول وإن قام في حق لكن لم يقم فيه لله وإنما قام لطلب المحمدة والشكور والجزاء من الخلق أو التوصل إلى غرض دنيوي كان هو المقصود أولا والقيام في الحق وسيلة إليه فهذا لم تضمن له النصرة، فإن الله إنما ضمن النصرة لمن جاهد في سبيله وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا لا لمن كان قيامه لنفسه ولهواه فإنه ليس من المتقين ولا من المحسنين وإن نصر فبحسب ما معه من الحق، فإن الله لا ينصر إلا الحق وإذا كانت الدولة لأهل الباطل فبحسب ما معهم من الصبر والصبر منصور أبداً فإن كان صاحبه محقاً كان منصوراً له العاقبة وإن كان مبطلاً لم يكن له عاقبة، وإذا قام العبد في الحق لله ولكن قام بنفسه وقوته ولم يقم بالله مستعيناً به متوكلاً عليه مفوضاً إليه بريا من الحول والقوة إلا به فله من الخذلان وضعف النصرة بحسب ما قام به من ذلك.
الضابط السابع : وجوب إظهار (مقصد الرحمة ) في موضع الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم .
يلحظ المتتبع لموارد الانتصار للنبي صلى الله عليه وسلم في القرآن والسيرة النبوية أنها لم تخلو من إبراز جانب الرحمة؛ فحتى شدته بالكفار ومعاقبته لهم كانت مشوبةً بالرحمة؛ فشدته عليهم شفقة، وعفوه عنهم إحسان، ومعاقبته لهم عدل، وقتاله لهم رحمة، فكان مقصد الرحمة ملازماً للنبي صلى الله عليه وسلم في المسالمة والمحاربة، وفي المصابرة والمدافعة، وهو من عمومات الشريعة وكلياتها وعوائدها الثابتة المستقرة؛ فأضحت البعثة النبوية من أولها إلى آخرها رحمة للمسلم والكافر؛ كما قال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107)؛ فمقصد الرحمة يظهر في مظهرين: الأول: تخلق نفسه الزكية بخلق الرحمة، والثاني: إحاطة الرحمة بتصاريف شريعته.
فما من أحدٍ من الناس إلاّ وله حظ من هذه الآية؛ كما يقول ابن القيم -معلّقاً عليها-: “وأصح القولين في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}؛ أنه على عمومه وفيه على هذا التقدير وجهان:
أحدهما: أن عموم العالمين حصل لهم النفع برسالته أما أتباعه فنالوا به كرامة الدنيا والآخرة، وأما أعداؤه فالمحاربون له عجل قتلهم وموتهم خير لهم من حياتهم؛ لأن حياتهم زيادة لهم في تغليظ العذاب عليهم في الدار الآخرة وهم قد كتب عليهم الشقاء فتعجيل موتهم خير لهم من طول أعمارهم في الكفر، وأما المعاهدون له فعاشوا في الدنيا تحت ظله وعهده وذمته وهم أقل شراً بذلك العهد من المحاربين له، وأما المنافقون فحصل لهم بإظهار الإيمان به حقن دمائهم وأموالهم وأهلهم واحترامها وجريان أحكام المسلمين عليهم في التوارث وغيره، وأما الأمم النائية عنه فإن الله سبحانه رفع برسالته العذاب العام عن أهل الأرض فأصاب كل العالمين النفع برسالته.
الوجه الثاني: أنه رحمة لكل أحد لكن المؤمنون قبلوا هذه الرحمة فانتفعوا بها دنيا وأخرى، والكفار ردوها فلم يخرج بذلك عن أن يكون رحمة لهم لكن لم يقبلوها لهذا المرض فإذا لم يستعمله المريض لم يخرج عن أن يكون دواء لذلك المرض وقد ثبت عن حذيفة بن اليمان أنه قال: لقيت النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة فقال صلى الله عليه وسلم : «أنا محمد وأنا أحمد وأنا نبي الرحمة ونبي التوبة وأنا المقفي وأنا الحاشر ونبي الملاحم صلى الله عليه وسلم ».
قال العلامة عبد الرؤوف المناويُّ -شارحاً الحديث-: ووجه كونه نبي الرحمة ونبي الحرب إن الله بعثه لهداية الخلق إلى الحق وأيده بمعجزات؛ فمن أبى عذب بالقتال والاستئصال، فهو نبي الملحمة التي بسببها عمت الرحمة وثبتت المرحمة وقد ظهر مقصد الرحمة -جلياً- في موضع الانتصار للنبي صلى الله عليه وسلم من المشركين والردّ عليهم، كما جاء في حديث ابن مسعود، قال: «كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».
وقد علّق الإمام ابن القيم على هذا الحديث بالقول: وتأمل حال النبي صلى الله عليه وسلم الذي حكى عنه نبينا أنه ضربه قومه حتى أدموه فجعل يسلت الدم عنه ويقول صلى الله عليه وسلم : «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»، كيف جمع في هذه الكلمات أربع مقامات من الإحسان قابل بها إساءتهم العظيمة إليه:
أحدها: عفوه عنهم .
والثاني: استغفاره لهم.
الثالث: اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون.
الرابع: استعطافه لهم بإضافتهم إليه، فقال: «اغفر لقومي» كما يقول الرجل لمن يشفع عنده فيمن يتصل به: هذا ولدي، هذا غلامي، هذا صاحبي؛ فهبه لي
لذلك كانت معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين بمكة معاملة عفوٍ وإحسانٍ لا معاملة تشفٍّ وانتقامٍ، كما في حديث عروة أن عائشة -رضي الله عنها - زوج النبي صلى الله عليه وسلم - حدثته أنها قالت للنبي-: «هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة-وفي الحديث-: فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد فقال ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فقال النبي صلى الله عليه وسلم -: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا
قال الحافظ ابن حجر ـ معلقاً على الحديث-: وفي هذا الحديث بيان شفقة النبيصلى الله عليه وسلم على قومه، ومزيد صبره وحلمه، وهو موافق لقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}(آل عمران:159)، وَقَوْله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ(الأنبياء:107).
وإذا شرع العبد بالدفاع عن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم في أي صورة من صور الدفاع فلا بد من إظهار الرحمة ؛ إذ مصلحة الانتصار له لا تقوم إلا بأن تقترن النّصرة بالرحمة؛ فالنصرة وسيلة والرحمة غاية، وبهما يتحقق التوسط بين الإفراط والتفريط، وبهما يكون الاعتدال بين برودة القلب ويبوسته؛ لذلك استعمل الرعيل الأول مع المشركين وأهل الكتاب كل سبيل موصل إلى نجاتهم وهدايتهم، وأعانوهم على تحصيل مصالح الدارين؛ فكان ذلك من مظاهر الرحمة والخيرية؛ حتى صارت محاربة المؤمنين للمشركين داخلة في معنى الرحمة والإحسان والفضل؛ كما جاء في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل».
وقد نقل الحافظ ابن حجر كلام ابن الجوزي في شرح الحديث؛ فقال: معناه أنهم أسروا وقيدوا، فلما عرفوا صحة الإسلام دخلوا طوعا فدخلوا الجنة، فكان الإكراه على الأسر والتقييد هو السبب الأول.
وقد جاء عن الصحابي الجليل أبي هريرة في تفسير قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران:110), قَالَ: «خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام؛ فلا تتمُّ مصلحة الانتصار لنبي الرحمة، ولا تتحقق مقاصد الدين إلا بالرحمة الحقيقية المبنية على العلم والهدى، لا على الجهل والهوى.
لاتوجد تعليقات