
السنن الإلهية (37 ) العاصي.. يُجزى نقيض قصده!
التقيت صاحبي بعد انقطاع أسبوع، قضاها في رحلة عمرة، وعادته أن يذهب برا، يتوقف أحيانا في المدينة، وأحيانا في القصيم، وأحيانا في حفر الباطن. بعد التحية والأسئلة، تمرا و(كليجة) سعودية، شكرته وعلقت مازحا: - هل تعلم أن (الكليجة) دخلت ضمن قائمة اليونسكو للأكلات الشعبية؟! - معلومة جديدة! كنا نتمشى بين العشاءين، بانتظار الأخيرة. - في أثناء مكوثي في الحرم المكي، بحثت عن (سنة الله)، في القرآن وجدت أنها وردت بتصريفاتها ستة عشر مرة، ولكن مرة واحدة لم توصف بعدم التبديل ولا التحويل، وهي في قوله -تعالى-: {مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} (الأحزاب:38). - ملاحظة جيدة، كنت قد قرأت تفسيرها في أثناء بحثي عن السنن الإلهية، والجواب أن هذه الآية نزلت لبيان (إباحة زواج الرجل من زوجة متبناه إذا قضى منها وطرا)، فتزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش بعد أن فارقها زيد بن حارثة (وكان يسمى قبل ذلك زيد بن محمد)؛ وحيث إنه لا نبي بعد رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم -، فلم توصف هذه السنة بعدم التبديل ولا التحويل، بل وصفت بقوله -تعالى-: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} - لقد أشفيت غليلي، وأرحت ذهني في هذه المسألة. تابعت حديثي: - ومن السنن الإلهية التي يغفل عنها كثير من الناس (أن العاصي يعامل بعكس مراده، ونقيض قصده). - هذا لغز آخر، يحتاج إلى بيان. - إليك البيان بإذن الله، في قصة أصحاب الجنة التي وردت في سورة القلم من الآية (17-33)، يقول -تعالى-: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (القلم). فقد أقسموا، ألا يعطوا مسكينا شيئا من بستانهم الكبير؛ فعقابهم الله -تعالى-، وأصبحت جنتهم كالصريم، احترقت فصارت كالليل الأسود لدرجة أنهم لم يتعرفوا عليها، في بادئ الأمر، وفي الحديث: «عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا» متفق عليه. - هذا في الدنيا. - نعم وربما يكون العذاب في الآخرة؛ فيتحسر العاصي على عمله، مثل جزاء المتكبر، في الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، يساقون إلى سجن في جهنم يقال له (بولس)، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال» (صحيح الترغيب). - أعوذ بالله من عذاب الله! هكذا كان ردة فعل صاحبي الفورية. - وعكس ذلك ينال المحسن أعظم مما عمل، من جنس إحسانه. - دعنا نكمل في (جزاء العاصي عكس مراده). - قس على ذلك كل معصية، من يشرب الخمر، ينال من الأذى الصحي والنفسي والاجتماعي، ما لا علاج له، ومن يقع في (الزنا) يناله من الذل والمرض والمهانة، ومن يتعامل بالربا، ومن يمكر بالناس: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}، إن (المعصية مكلفة، متعبة)، ينفق العاصي أمواله، يريد أن يستمتع ولا ينال إلا التعب والمرض والإرهاق، في حياته الدنيا، فضلا عما ينتظره في الآخرة: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (طه:124)، الضنك: الشدة والضيق والشقاء، هذه سنة إلهية وعلى النقيض من كان في طاعة الله، وإن كان فقيرا، أو مبتلى، فإن الله وصف حياته: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل:97)، قال ابن عباس: السعادة، والرزق الطيب الحلال، والقناعة، ومن ذلك أن القاتل لا يرث، قال ابن تيمية: «وأما الوارث إذا قتل مورثه عمدا فإنه لا يرث شيئا من ماله باتفاق الأئمة».
لاتوجد تعليقات