
الذكريات.. وحديث الذات!
الذكريات جزء لا يتجزأ من كيان الإنسان؛ فهي الأرشيف الداخلي الذي يحتفظ بتفاصيل الماضي، من لحظات الفرح والحزن، والنجاح والفشل.
ولا تمرّ الذكريات علينا مرور الكرام، بل تلاحقنا في يقظتنا ونومنا، وحلّنا وترحالنا، إنها جزء من أرواحنا ترافقنا بصمت، وتهمس لنا في لحظات السكون، منها ما يبهج القلب كنسمة دافئة، ومنها ما يثقله كظل كئيب.
هكذا تفعل بنا الذكريات.. تطرق أبوابنا -بلا استئذان- لتدخل خلسة إلى قلوبنا، وتعيدنا إلى لحظات كنّا نظن أننا تجاوزناها، لكنها ظلت راسخة في أعماق النفس.. تطاردنا بين الحين والآخر.
فذكرياتنا السعيدة تحمل في طيّاتها نسمات الأمل، وعبق التفاؤل، إنها كالشمس التي تُطل من خلف الغيوم، تُذيب وحشة الأيام، وتبعث الدفء في برد الواقع، وتمنحنا طاقة للاستمرار والعمل والتواصل مع الآخرين، وتعيد إلينا ابتسامات الرضا، وعوامل النجاح.
وعلى الجهة الأخرى، تقبع ذكرياتنا المؤلمة، تزورنا في غفلة منا، في لحظات الضعف والانكسار؛ لتسرق النوم من العيون، وتثقّل القلب بأنينٍ صامت، تنغرس في الروح كأشواك لا تذبل، وتترك في النفس أثرًا عميقًا، وندوبًا لا تمحوها السنون.
عجيب أمر هذه الذكريات! إنها تُربك القلب؛ فتسعده حتى الدمع! أو تبكيه حتى الابتسام! إنها مرآتنا التي لا نقوى على التحديق فيها طويلاً، ولا نملك نسيانها، بل علينا أن نحسن التعامل معها لمعالجة آثارها؛ فمن الذكريات السعيدة نستلهم قوتنا، ومن المؤلمة نبني وعينا ونضجنا.
إن أول خطوة في التعامل مع ذكرياتنا هو التسليم بأقدار الله -تعالى-، والإيمان العميق بأن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، قال -تعالى-: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (التغابن: 11)، فلابد لنا من الشكر في السراء، والصبر في الضراء، وعدم التسخط والجزع واليأس والقنوط.
العِبرة لا العَبرة: فبدلًا من البكاء على الأقدار المؤلمة، علينا أخذ العِبرة منها والدروس التي تعيننا على تصحيح الأخطاء، وفهم أعمق للحياة.
الاعتدال والتوسط: فلا بأس من تذكّر الماضي، لكن دون أن ننغمس فيه؛ فالذكرى محطة للتأمل لا مسكن للإقامة في مهاوي اليأس والقنوط.
ذكر الله دواء القلوب: فكلما عصفت بنا الذكريات، علينا أن نردّد دعاء النبي [: «اللهم إني أعوذُ بكَ منَ الهمِّ والحزَنِ، وأعوذُ بكَ منَ العجزِ والكسلِ».
إنَّ ذكرياتنا ما هي إلا صفحات من كتاب العمر، نُقلِّبها لنأخذ منها العظات والعبر، إنها رصيد من المشاعر نحتاج إلى إدارته بحكمه، والذكي من يجعل منها طريقًا للتقدّم لا عثرة للتوقف أو التأخر، ودافعًا للنهوض لا سبيلاً للسقوط والقنوط.
لاتوجد تعليقات