
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن- {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} (الأنعام: 149)
« إن الله لم يترك للعبد سببا في الاعتذار يتمسك به، والحاصل أنه لا يعاقب إلا بعد حجة». فلله الحمد على نعمته، وله الحمد على رحمته
ربنا -تبارك وتعالى- له الأسماء الحسنى والصفات العليا، فهو -سبحانه -عليم ورحيم وحكيم، قوله صدق، وخبره حق، وحكمه عدل، وفعله حكمة، لا يسأل عما يفعل، لا معقب لحكمه، ولا راد لأمره، قال الشيخ ابن سعدي: «فلا يخلق شيئاً عبثا، ولا يشرع شيئاً سدى، الذي له الحكم في الأولى، والآخرة، وله الأحكام الثلاثة لا يشاركه فيها مشارك، فيحكم بين عباده في شرعه، وفي قدره، وجزائه».
ومن حكمته سبحانه ورحمته بعباده أنه يقيم الحجة عليهم قبل أن يحاسبهم ويعاقبهم، فيقطع عذرهم، ويمنع حجتهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب وإقامة البراهين الساطعة والبينات الباهرة، فقال تعالى: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}(النساء: 165).
قال البغوي: «وفيه دليل على أن الله -تعالى- لا يعذب الخلق قبل بعثه الرسول». وقال الطبري: «يقول: أرسلت رسلي إلى عبادي مبشرين ومنذرين، لئلا يحتج من كفر بي وعبد الأنداد من دوني، أو ضل عن سبيلي بأن يقول إن أردت عقابه: {لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى}(طه: 134). فقطع حجة كل مبطل ألحد في توحيده وخالف أمره، بجميع معاني الحجج القاطعة عذره، إعذارا منه بذلك إليهم، لتكون لله الحجة البالغة عليهم وعلى جميع خلقه».
وقال سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا }(الإسراء: 15). قال الطبري: «يقول تعالى ذكره: وما كنا مهلكي قوماً إلا بعد الإعذار إليهم بالرسل، وإقامة الحجة عليهم بالآيات التي تقطع عذرهم».
ونقل عن قتادة أنه قال: «إن الله تبارك وتعالى ليس يعذب أحدا حتى يسبق إليه من الله خبرا، أو يأتيه من الله بينة، وليس معذبا أحدا إلا بذنبه».
وقال ابن كثير: «قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} إخبار عن عدله تعالى، وأنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسول إليه، كما قال تعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ۖ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَىٰ قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ}(الملك: 8 - 9)، وكذا قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا ۚ قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ }(الزمر: 71)، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تعالى لا يدخل أحدا النار إلا بعد إرسال الرسول إليه».
وأما من لم تقم عليه الحجة فإن الله -تعالى- يختبرهم في الآخرة، ودليله ما رواه الإمام أحمد عن الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربعة (يحتجون) يوم القيامة رجل أصم لا يسمع شيئاً ورجل أحمق ورجل هرم ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً، وأما الأحمق فيقول رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهرم فيقول رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً، وأما الذي مات في الفترة فيقول رب ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، قال: فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما». قال شعيب الأرناؤوط: حديث حسن.
وقال سبحانه:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(التوبة: 115).
قال الطاهر: «ومعنى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا} أن ليس من شأنه وعادة جلاله أن يكتب الضلال لقوم بعد إذ هداهم بإرسال الرسل إليهم وإرشادهم إلى الحق حتى يبين لهم الأشياء التي يريد منهم أن يتقوها، أي: يتجنبوها، فهنالك يبلغ رسله أن أولئك من أهل الضلال حتى يتركوا طلب المغفرة لهم كما قال لنوح - عليه السلام -: {ﭝفَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}(هود: 46)، ولا كان من شأنه - تعالى - أن يكتب الضلال لقوم بعد إذ هداهم للإيمان واهتدوا إليه لعمل عملوه حتى يبين لهم أنه لا يرضى بذلك العمل».
وقال ابن كثير: «يقول تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة وحكمه العادل: إنه لا يضل قوما بعد بلاغ الرسالة إليهم، حتى يكونوا قد قامت عليهم الحجة، كما قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ}(فصلت: 17). وقال تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ}(الأنعام: 149).
قال القرطبي: «الحجة البالغة أي: التي تقطع عذر المحجوج، وتزيل الشك عمن نظر فيها، فحجته البالغة على هذا تبيينه أنه الواحد، وإرساله الرسل والأنبياء; فبين التوحيد بالنظر في المخلوقات، وأيد الرسل بالمعجزات، ولزم أمره كل مكلف».
وقال ابن كثير: «يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : (قل) لهم - يا محمد: (فلله الحجة البالغة) أي: له الحكمة التامة، والحجة البالغة في هداية من هدى، وإضلال من أضل، ( فلو شاء لهداكم أجمعين)،وكل ذلك بقدرته ومشيئته واختياره، وهو مع ذلك يرضى عن المؤمنين ويبغض الكافرين، كما قال تعالى:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ}(الأنعام: 35)، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا}(يونس: 99)، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴿118﴾إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ }(هود: 118 - 119).
قال الضحاك: «لا حجة لأحد عصى الله، ولكن لله الحجة البالغة على عباده».
ولأن الله -تعالى- رحيم فهو يحب الإعذار كما قال صلى الله عليه وسلم : «ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المنذرين والمبشرين» متفق عليه، وفي رواية مسلم: «بعث المرسلين مبشرين ومنذرين»، وله من حديث ابن مسعود «ولذلك أنزل الكتب والرسل» أي: وأرسل الرسل.
قال القاضي عياض: «المعنى بعث المرسلين للإعذار والإنذار لخلقه قبل أخذهم بالعقوبة، وهو كقوله تعالى:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}(النساء: 165).
وقد أخرج البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلَّغه ستين سنة».
قال ابن حجر: «قوله: «أعذر الله» الإعذار إزالة العذر، والمعنى أنه لم يبق له اعتذار كأن يقول: لو مد لي في الأجل لفعلت ما أمرت به، يقال: أعذر إليه إذا بلغه أقصى الغاية في العذر ومكنه منه، وإذا لم يكن له عذر في ترك الطاعة مع تمكنه منها بالعمر الذي حصل له فلا ينبغي له حينئذ إلا الاستغفار والطاعة والإقبال على الآخرة بالكلية، والمعنى أن الله لم يترك للعبد سببا في الاعتذار يتمسك به، والحاصل أنه لا يعاقب إلا بعد حجة».
فلله الحمد على نعمته، وله الحمد على رحمته، ونسأله تعالى التوفيق والسداد، والإخلاص والقبول.
لاتوجد تعليقات