رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 27 مارس، 2023 0 تعليق

شرح كتاب الصيام من مختصر مسلم – باب: الشَّهر تِسْع

عن أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ شَهْراً، فَلَمَّا مَضَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْماً، غَدَا عَلَيْهِمْ أَوْ رَاحَ، فَقِيلَ لَهُ: حَلَفْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؛ أَنْ لَا تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْراً، قَالَ: «إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا»، وعن ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وهَكَذَا وهَكَذَا، وعَقَدَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ، والشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، يَعْنِي تَمَامَ ثَلَاثِينَ».

     الحديثان أخرجهما مسلم في الباب السابق (2/760-761)، واتفق الشيخان على هذه القصة من حديث أم سلمة -رضي الله عنها-، وأخرجها البخاري أيضا من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: آلى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من نسائه، وكانت انفكت رجله، فأقام في مَشْربة تسعاً وعشرين ليلة، ثم نزل فقالوا: يا رسول الله، آليت شهراً؟ فقال: «إنّ الشّهرَ يكون تسعاً وعشرين»، ورويت القصة أيضاً من حديث عمر في الصّحيحين، وجابر في صحيح مسلم وغيره.

حَلَفَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ لَا يَدْخُلَ

عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ شَهْراً

     قوله: «أَنَّ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ شَهْراً» وفي الرواية الأخرى: «آلى منْ نسائه» أي: حلف ألا يدخل عليهن، وصرّح في هذا الحديث بأنّ حلفه - صلى الله عليه وسلم - كان على الامتناع من الدخول على أزواجه شهراً، فتبين أنّ قوله في حديث أم سلمة وأنس وغيرهما: «آلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من نسائه» أريدَ به ذلك، ولم يرد به الحلف على الامتناع من الوطء، والروايات يفسّر بعضها بعضاً، فإنَّ الإيلاء في اللغة: مطلق الحلف، لكنّه مستعمل في عرف الفقهاء في حلفٍ مخصوص، وهو الحلف على الامتناع منْ وَطء زوجته مُطلقاً، أو مدةً تزيد على أربعة أشهر، فلا يُستعمل الإيلاء عندهم فيما عدا ذلك.

 

الإيلاء على الوجه المذكور حرام

     والإيلاء على الوجه المذكور حرام؛ لما فيه من إيذاء الزوجة، وليس هو المذكور في الحديث، ولو حلف على الامتناع من وطء الزوجة أربعة أشهر فما دونها، لمْ يكنْ حراماً، وفي حديث أم سلمة وغيرها ما يدل على ذلك.

     قوله: «فَلَمَّا مَضَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْماً، غَدَا عَلَيْهِمْ أَوْ رَاحَ» اسْتشكل قولها فلمّا مضت تسع وعشرون ليلة دخل عليهم، لأنّ مقتضاه أنه دخل في اليوم التاسع والعشرين، فلم يكن شهراً على الكمال ولا على النقصان، وجوابه: أنّ المراد فلما مضت تسع وعشرون ليلة بأيامها، فإن العرب تؤرّخ بالليالي وتكون الأيام تابعة لها، ويدل لذلك قوله في حديث أم سلمة عند البخاري وغيره: «فلما مضى تسعة وعشرون يوما».

     وكذا قال القاضي عياض بعد ذكره اختلاف الروايات في ذلك: معناه كلّه بعد تمام تسعة وعشرين يوماً، يدل عليه رواية فلما مضَى تسع وعشرون يوما.

جواز هجران المسلم فوق ثلاثة أيام

     وفيه جواز هجران المسلم فوق ثلاثة أيام، إذا تعلّقت بذلك مصلحة دينية، مِنْ صلاحِ حال المَهجور وغير ذلك، ومن ذلك: إذا كان المَهْجور مُبْتدعاً، أو مُجَاهراً بالظلم والفسوق فلا يَحْرم هجره، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أخاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيالٍ، يَلْتَقِيانِ فيُعْرِضُ هذا ويُعْرِضُ هذا، وخَيْرُهُما الذي يَبْدَأُ بالسَّلامِ». رواه مسلم. فمحلّه ما إذا كان الهجران لحظوظ النفس. قال النووي في الروضة: قال أصحابنا وغيرهم هذا في الهجران لغير عذر شرعي، فإنْ كان عذر بأنْ كان المهجور مذموم الحال لبدعة أو فسق أو نحوهما، أو كان فيه صلاح لدين الهاجر أو المهجور، فلا يحرم، وعلى هذا يحمل ما ثبت من هجر النبي - صلى الله عليه وسلم - كعب بن مالك وصاحبيه ونهيه - صلى الله عليه وسلم - الصحابة عن كلامهم، وكذا ما جاء من هجران السلف بعضهم بعضا انتهى.

إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ

     أمّا حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ». ورواه البخاري (1814). فهو يدل على أنه لا يُلتفت في معرفة دخول الشهر إلى الحسابات الفلكية، وإنما يُعتمد على الرؤية الظاهرة للهلال عند ولادته فنعرف دخول الشهر، فالحديث سيق لبيان أنّ الاعتماد على الرؤية لا على الحساب.

     ولم يأتِ لحثّ الأمة الإسْلامية للبقاء على الجهل، وترك تعلّم الحساب العادي، وسائر العلوم الدنيويّة النافعة، ولذلك فلا ينافي هذا الحديث ما يتعلمه المسلمون اليوم من العلوم المختلفة التي تفيدهم في دينهم ودنياهم، والإسلام دين العلم، وهو يدعو إليه ويوجب على كلّ مسلم أنْ يتعلّم ما افترضه الله عليه من الإيمان والتوحيد، ويتعلم أحكام ما يحتاج إليه من العبادات والمعاملات، وأمّا العلوم الدنيوية كالطبّ والهندسة والزراعة، وغيرها فيجب على المسلمين -عموماً- أن يتعلّموا منها ما تحتاج إليه الأمّة، ولو احتاج المسلمون لصنع إبرة لوجب عليهم أنْ يكون فيهم مَنْ يتعلّم صنعة تلك الإبرة.

شرح وافٍ لابن تيمية لهذا الحديث

     ولشيخ الإسلام ابن تيمية شرح وافٍ لهذا الحديث، استقصى فيه فأجاد، ومن جوابه قال: قوله: «إنا أمّة أميّة» ليس هو طلباً، فإنّهم أمِّيُّون قبل الشريعة، كما قال الله -تعالى-: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ} (الجمعة:2). وقال: {وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} (آل عمران: 20). فإذا كانت هذه صفة ثابتة لهم قبل المَبْعث، لم يكونوا مأمورين بابتدائها، نعم قد يُؤمرون بالبقاء على بعض أحكامها، فإنّا سنبيِّن أنهم لم يؤمروا أنْ يبقوا على ما كانوا عليه مطلقاً.

الأميَّة منْها ما هو محرَّم

 ومكروه وما هو نقص

     ثم قال: فصارت هذه الأميَّة منْها ما هو محرَّم، ومنها ما هو مكروه، ومنها ما هو نقص وترك الأفضل، فمَن لم يقرأ الفاتحة أو لم يقرأ شيئاً من القرآن، تسمِّيه الفقهاء في (باب الصلاة) أميّاً ويقابلونه بالقارئ، فيقولون: لا يصحّ اقتداء القارئ بالأميّ، ويجوز أنْ يأتم الأميّ بالأمي ونحو ذلك من المسائل، وغرضهم بالأمِّيِّ هنا الذي لا يقرأ القراءة الواجبة سواء كان يكتب أولا يكتب، يَحسب أولا يحسب.

فهذه الأميَّة منها: ما هو تَرك واجبٍ يُعاقب الرجل عليه إذا قدر على التعلم فتركه.

الأمية المذمومة

      ومنها: ما هو مَذْموم، كالذي وَصَفه الله -عز وجل- عن أهل الكتاب؛ حيث قال: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} (البقرة: 78). فهذه صفةُ مَنْ لا يفقه كلام الله ويعمل به، وإنّما يقتصر على مجرد تلاوته، كما قال الحسن البصري: نَزَل القرآن ليُعمل به فاتَّخذوا تلاوتَه عَمَلاً، فالأمّي هنا قد يقرأ حروف القرآن أو غيرها ولا يفقه، بل يتكلّم في العلم بظاهر من القول ظنّاً، فهذا أيضا أمي مذمومٌ، كما ذمَّه الله، لنقصِ علمه الواجب، سواءً كان فرضَ عينٍ أم كفاية.

الأفضل والأكمل

     ومنها: ما هو الأفْضل الأكْمل، كالذي لا يقرأ مِنَ القرآن إلا بعضه، ولا يفهم منْه إلا ما يتعلّق به، ولا يفهم من الشريعة إلا مقدار الواجب عليه، فهذا أيضاً يقال له: أميٌّ، وغيره ممّن أوتي القرآن عِلماً وعملاً أفضل منه وأكمل... إلى آخر كلامه -رحمه الله-، انظر: مجموع الفتاوى (17/ 436).

 

من فوائد الحديث

- أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أخبَرَهم أنَّ الشَّهرَ يكونُ أحيانًا تِسعةً وعشرينَ يوماً، كما يكونُ أحيانًا ثلاثينَ، والكلُّ جائزٌ وواقعٌ، ولكنَّ الاعتِمادَ في الصِّيامِ والإفطارِ على الرُّؤيةِ، وهو معْنى قَولِه: «فلا تصُوموا حتَّى تَرَوْه»، أي: حتَّى تَرَوُا الهلالَ بعْدَ غُروبِ شَمسِ اليومِ التَّاسعِ والعشرين مِن شَعبانَ،

- جعَلَ اللهُ الأهِلَّةَ لحِسابِ الشُّهورِ والسِّنينَ، فبِرُؤْيةِ الهِلالِ يَبدَأُ شَهْرٌ ويَنْتَهي آخَرُ، وعلى تلك الرُّؤْيةِ تَتَحدَّدُ فَرائضُ كَثيرةٌ، كالصِّيامِ، والحَجِّ، ومواقيت العدد وغيرها.

- وفي الحديثِ: عدمُ الاعتِمادِ على غيرِ رُؤيةِ الهلالِ، كالحِساب الفَلَكي.

- فيه منقبةٌ لعائشة -رضي الله عنها-، لبدائه - صلى الله عليه وسلم - بالدخول عليها قبل بقية زوجاته، كما في الرواية.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك