
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: في دُخُولِ الكَعْبة والصّلاة فيها والدُّعَاء
- كان أصْحابُ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حريصين على معرفة سُنَّةِ النَّبيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم واتّباعها والعمل بها وكان مِن أحرَصِهم على ذلك عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رضي الله عنهما
- الكَعبةُ المُشرَّفةُ هي بيتُ اللهِ العتيقُ ولها مكانةٌ عظيمةٌ في قلوبِ المسلمينَ وقد صلَّى النبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم في جَوْفِها وداخِلَها عامَ فتحِ مكَّةَ
عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْفَتْحِ فَنَزَلَ بِفِنَاءِ الكَعْبَةِ، وأَرْسَلَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ فَجَاءَ بِالمِفْتَحِ فَفَتَحَ الْبَابَ، قَالَ: ثُمَّ دَخَلَ النَّبِيُّ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - وبِلَالٌ وأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، وأَمَرَ بِالْبَابِ فَأُغْلِقَ، فَلَبِثُوا فِيهِ مَلِيًاً، ثُمَّ فَتَحَ الْبَابَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَبَادَرْتُ النَّاسَ فَتَلَقَّيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - خَارِجاً، وبِلَالٌ عَلَى إِثْرِهِ، فَقُلْتُ لِبِلَالٍ: هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - اللهِ صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أَيْنَ؟ قَالَ: بَيْنَ العَمُودَيْنِ، تِلْقَاءَ وَجْهِهِ. قَالَ: ونَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى؟ وعن ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَسَمِعْتَ ابْنَ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- يَقُولُ: إِنَّمَا أُمِرْتُمْ بِالطَّوَافِ، ولَمْ تُؤْمَرُوا بِدُخُولِهِ! قَالَ: لَمْ يَكُنْ يَنْهَى عَنْ دُخُولِهِ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - لَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ، دَعَا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا، ولَمْ يُصَلِّ فِيهِ حَتَّى خَرَجَ، فَلَمَّا خَرَجَ رَكَعَ في قُبُلِ الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ. وقَالَ: هَذِهِ الْقِبْلَةُ قُلْتُ لَهُ مَا نَوَاحِيهَا أَفِي زَوَايَاهَا؟ قَالَ بَلْ فِي كُلِّ قِبْلَةٍ مِنْ الْبَيْتِ.
في الباب حديثان، رواهما مسلم في الحج (2/966) باب: استحباب دُخول الكعبة للحاج وغيره، والصلاة فيها، والدعاء في نواحيها كلها.الحَديث الأوّل
يُخبِرُ عَبدُ اللهِ بنُ عُمرَ -رضي الله عنهما- أنَّ النَّبيَّ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - جاء يومَ فَتحِ مكَّةَ، وذلك في السَّنةِ الثَّامِنةِ مِن الهِجْرةِ، وكان يَركَبُ خَلْفَه أُسامةُ بنُ زَيدٍ - رضي الله عنه - على ناقَتِه الَّتي تُسمَّى القَصْواءَ، وكان معَه بِلالُ بنُ رَباحٍ وعُثْمانُ بنُ طَلْحةَ -رضي الله عنهما-، فأناخَ النَّبيُّ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - راحِلَتَه عندَ البَيتِ الحَرامِ، وبعَثَ إلى عُثْمانَ بنَ طَلْحةَ يَجلِبُ له مِفْتاحَ البَيتِ الحَرامِ.عثمان بن طلحة - رضي الله عنه -
وعثمان بن طلحة، هو الحَجَبي، قال النّووي: هو بفتح الحاء والجيم، منسوبٌ إلى حِجَابة الكعبة، وهي ولايتها وفتحها وإغْلاقها وخِدْمتها، ويقال له ولأقاربه: الحَجبّون والحَجبة، وهو عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، واسم أبي طلحة عبدالله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي القرشي العبدري، أسلم مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص في هدنة الحديبية، وشهد فتح مكة، ودَفع النبي - اللهِ صلى الله عليه وسلم - مفتاح الكعبة إليه، وإلى أبي شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، وهو ابن عم عثمان هذا، لا ولده، وقال: خُذُوها يا بني طلحة، خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم، ثمّ نَزل المدينة، فأقام بها إلى وفاة النبي - اللهِ صلى الله عليه وسلم -، ثم تحوّل إلى مكة، فأقام بها حتى توفي، سنة اثنتين وأربعين، وقيل: إنه اسْتشهد يوم أجنادين- بفتح الدال وكسرها- وهي موضع بقُرب بيت المقدس، كانت غزوته في أوائل خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وثبت في الصحيح: قوله - اللهِ صلى الله عليه وسلم -: «كلُّ مأثَرةٍ كانت في الجاهلية، فهي تحتَ قدمي، إلا سِقاية الحاج، وسَدانة البيت»، قال القاضي عياض: قال العلماء: لا يجوزُ لأحَدٍ أنْ يَنْزعها منهم. قال: وهي ولاية لهم عليها منْ رسُول الله - اللهِ صلى الله عليه وسلم -، فتبقى دائمةً لهم ولذُرياتهم أبداً، ولا يُنازعون فيها، ولا يُشاركون ما داموا مَوجودين، صالحين لذلك.قوله: «فأتاهُ به»
قوله: «فأتاهُ به، فدخَلَ هو وأُسامةُ بنُ زَيدٍ، وبِلالُ بنُ رَباحٍ، وعُثْمانُ بنُ طَلْحةَ -رضي الله عنهم-، وأغْلَقوا البابَ عليهم، وفي رواية: «فأغلقها عليه» ضمير الفاعل يحتمل أنْ يكون لرسول الله - اللهِ صلى الله عليه وسلم -، فقد جاء في بعض الروايات: عن ابن عمر قال: كان بنو أبي طلحة يزعُمُون، أنّه لا يستطيع أحدٌ فتحَ الكعبة غيرهم، فأخذ رسُول الله - اللهِ صلى الله عليه وسلم - المِفْتاح، ففتحها بيده، لكنّها رواية ضعيفة، كما جاء في رواية أخرى «فأغلقاها عليه» والضّمير لعثمان وبلال، وهي رواية ضعيفة أيضًا، رواها مالك في الموطأ، والظاهر أنّ ضمير الفاعل لعثمان بن طلحة.فأمر بالباب فأغلق
ففي الرواية الثانية «فأمر بالباب فأغلق» وفي الرواية الخامسة: «وأجَافَ عليهم عثمان بن طلحة الباب» فالمباشر للغَلْق هو عثمان، لأنّه مِنْ وظيفته، وأسْندَ الفعل «أجَافُوا عليهم الباب» في الرواية الرابعة، باعْتبارهم راضيين به، وإنّما أمَرَ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - بإغْلاق الباب، ليكونَ أسْكن لقَلْبه، وأجْمع لخُشُوعه، ولئلّا يَجْتمعَ الناسُ عليه، ويَدخلوا ويزدَحموا، فينالهم ضَرر، ويَتشوّش عليه الحال بسببِ لغَطهم، وقد يقال: إنّما أغْلقه خشيةَ أنْ يكثرَ الناس عليه، فيُصلّوا بصَلاته، فليتزمُوها فيشقّ عليهم، كما فَعلَ في صلاة الليل، حيثُ لمْ يَخْرج إليهم.قوله: «ثمّ مكثَ فيها»
في الرواية الثانية: «فلَبثُوا فيه مَليا»، والضّمير في «فيه» للبيت، ومليّاً، أي: زَمَناً طويلاً. وفي الرواية الرابعة: «فأجافوا عليهم الباب طويلاً» أي: أغْلقوه عليهم زَمَناً طويلاً. وقوله: «فسألتُ بلالاً حينَ خَرَج» في الرّواية الثانية: «فبادرت الناس، فتلقيتُ رسُول الله - اللهِ صلى الله عليه وسلم - خارجاً، وبلال على إثْره، فقلت لبلال» وفي الرواية الرابعة: «فكنتُ أول مَنْ دَخل، فلقيتُ بلالاً فقلت». وفي الرواية الخامسة: «فخرج النبي - اللهِ صلى الله عليه وسلم - ورقيت الدرجة، وكانت قدر ثلثي ذراع، فدخلتُ البيت، فقلت». ومنْ مجموع الروايات يتبيّن: أنّ عبدالله بن عُمر حين فتح الباب، رَقَى الدّرجة التي تحت الباب، فدخل عقب خُرُوج النّبيّ - اللهِ صلى الله عليه وسلم -، والتقى ببلال في الداخل قبل أنْ يَخْرج فسَأله، فمعنى «حينَ خَرَج» حينَ قَارب، وبَاشَرَ الخُرُوج. قوله: «ماذا صنع رسول الله - اللهِ صلى الله عليه وسلم -؟» أي: في داخل الكعبة. وفي الرواية الثانية: «فقلت لبلال: هل صلّى فيه رسُول الله - اللهِ صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم. قلت: أين؟ قال.... إلخ وهذه الرواية أوضح الروايات في سؤالِ ابن عمر لبلال، وقد ذكرتْ بعض الروايات بعضاً، وتركت بعضاً، وكأنه استثبت أنّه - اللهِ صلى الله عليه وسلم - صلّى في الكعبة، ثمّ سألَ عنْ مكان صلاته فيها.قوله: «بين العَمُودين تِلْقاءَ وَجْهه»
أي: في مقابل اتّجاهه. وكان سقفُ الكعْبة آنذاك قائماً على ستة أعْمدة في صفّين، كلُّ صفٍّ يَعْترض البابَ ثلاثةُ أعْمِدة، فتركَ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - صفّ الأعْمدة القريب مِنَ الباب، وفي الصفّ المُقدّم ترك عَمُوداً عن يمينه، وعمودين عن شماله، وفي مواجهة حائط الكعبة، وخلف ظَهره باب الكعبة، وهذا معنى قوله في الرواية الأولى: «جعلَ عَمُودين عن يساره، وعَمُوداً عن يمينه، وثلاثة أعْمدة وَرَاءه». وقوله في الرواية الثانية: «بين العَمُودين تلقاء وجْهه». وقوله في الرواية الرابعة: «بين العَمُودين المُقدّمين». وقوله في الرواية السادسة والسابعة: «بين العمودين اليمانيين» بتخفيف الياء، لأنّهم جعلوا الألف بدل إحدى ياءي النّسب، وجوّز سيبويه التشديد. قال النووي: هكذا هو في مسلم: «عَمُودين عن يساره، وعَمُوداً عن يمينه». وفي رواية للبخاري: «عَمودين عن يمينه، وعَمُوداً عن يساره» وهكذا هو في الموطأ وفي سنن أبي داود. وفي رواية للبخاري: «عَمُوداً عن يمينه، وعَمُوداً عن يساره». اهـ وقد روى البخاري: أنّ عبدالله بن عُمر: كان إذا دَخَلَ الكعْبة، مَشَى قبل الوجْه حين يَدخل، ويجعل الباب قِبلَ الظُّهر، ويَمشي حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قِبل وجْهه، قريباً من ثلاثة أذرع، فيُصلّي، يَتَوخّى المكان الذي أخبره بلالٌ، أنّ رسول الله - اللهِ صلى الله عليه وسلم - صلى فيه.مكوث النبي - اللهِ صلى الله عليه وسلم - داخل الكعبة
فمَكَثَ النَّبيُّ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - ومَن معَه داخِلَ الكَعْبةِ وَقْتًا طَويلًا، ثمَّ خرَجَ، فأسرَعَ النَّاسُ في الدُّخولِ إلى الكَعْبةِ، وكان عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أسْبَقَ النَّاسِ إلى الدُّخولِ، فلمَّا دخَلَ وجَدَ بِلالَ بنَ رَباحٍ - رضي الله عنه - واقفًا وراءَ البابِ، فسَأَلَه: أين صلَّى رَسولُ اللهِ - اللهِ صلى الله عليه وسلم -؟ فقال له: صلَّى بيْنَ ذَيْنِكَ العَمودَيْنِ المُقدَّمَينِ، وكان البَيتُ الحَرامُ على سِتَّةِ أعْمِدةٍ سَطرَينِ، أي: صَفَّينِ، وذلك قبْلَ أنْ يُهدَمَ، ويُبْنى في زمَنِ عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ -رضي الله عنهما-، فصلَّى النَّبيُّ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - بيْنَ العَمودَينِ في الصَّفِّ الأوَّلِ، وجعَلَ البابَ خَلْفَ ظَهرِه، واستقبَلَ بوَجْهِه ما يَستَقبِلُه مَن يَدخُلُ البَيتَ مِن الجِدارِ، وكان عندَ المَكانِ الَّذي صلَّى فيه النَّبيُّ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - مَرْمَرةٌ حَمْراءُ، وهي منَ الأحْجارِ النَّفيسةِ. قال ابنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: ونَسيتُ أنْ أسْأَلَه: كمْ صلَّى؟فوائد الحديث
- مَشْروعيَّةُ دُخولِ الكَعْبةِ، والصَّلاةِ بداخلها.
- وفيه: السُّؤالُ عن الشّيء مِنْ أجْلِ العِلمِ، والحِرصُ عليه.
- وفيه: تَواضُعُ النَّبيِّ - اللهِ صلى الله عليه وسلم -، وحُسنُ عِشرَتِه لأصْحابِه، وحَملُه النَّاسَ على دابَّتِه.
- ما كان عليه أصْحابُ رَسولِ اللهِ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - مِنَ الحِرصِ على معرفة سُنَّةِ النَّبيِّ - اللهِ صلى الله عليه وسلم -، واتّباعها والعمل بها، فَفِيها خير الدُّنْيا والآخِرةِ، وكان مِن أحرَصِهم على ذلك عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ -رضي الله عنهما-.
- أنّ الكَعبةُ المُشرَّفةُ هي بيتُ اللهِ العتيقُ، ولها مكانةٌ عظيمةٌ في قلوبِ المسلمينَ، وقد صلَّى النبيُّ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - في جَوْفِها وداخِلَها عامَ فتحِ مكَّةَ.
لاتوجد تعليقات