رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي 17 يناير، 2025 0 تعليق

شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: في الوقوف بعرفة، وقوله -تعالى-: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}

  • الوقوف بعرفة كان مِنْ شريعة إبراهيم عليه السلام فكانت العرب متمسكة به إلا ما كان مِنْ قريش فهدى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم إليه
  • كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم  يَتعبَّدُ اللهِ على الفِطرةِ الخالِصةِ والدِّينِ القَويمِ ويَتحَرَّى فِعلَ ما كان يَفعَلُه أبوه الخَليلُ إبراهيمُ عليه الصلاة والسَّلامُ

عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: كَانَ قُرَيْشٌ وَمَنْ دَانَ دِينَهَا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الْحُمْسَ، وَكَانَ سَائِرُ الْعَرَبِ يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَمَرَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- نَبِيَّهُ -صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَأْتِيَ عَرَفَاتٍ فَيَقِفَ بِهَا ثُمَّ يُفِيضَ مِنْهَا فَذَلِكَ قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ- ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ. (البقرة:199)، وعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: أَضْلَلْتُ بَعِيرًا لِي، فَذَهَبْتُ أَطْلُبُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - وَاقِفًا مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَةَ، فَقُلْت:ُ وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَمِنْ الْحُمْسِ، فَمَا شَأْنُهُ هَاهُنَا؟ وكَانَتْ قُرَيْشٌ تُعَدُّ مِنْ الْحُمْسِ. في الباب حديثان، رواهما مسلم في الحج (2/893-894) وبوّب عليه بمثل تبويب المنذري.

الحديث الأول

        حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كانت قريش وَمن دَان دينهَا» أَي: كانت قبيلة قريش ومن كان على دين قُرَيْش. قَالَ الْخطابِيّ: الْقَبَائِل الَّتِي كَانَت تدين مَعَ قُرَيْش هم: بَنو عَامر بن صعصعة، وَثَقِيف، وخزاعة.

        وكان يُفيضُ جَماعةُ النَّاسِ -غيرَ الحُمْسِ- مِن عَرَفاتٍ، وتُفيضُ الحُمْسُ مِن جَمْعٍ، وهي المُزدَلِفةُ، ولا يَتجاوَزونَها إلى عَرَفةَ؛ لِئلَّا يَخرُجوا عن حُدودِ الحَرَمِ الذي شَرَّفَهمُ اللهُ بسُكناه، وجَعَلَه عِصمةً لدِمائِهم وأموالِهم، هكذا زين لهم الشيطان، وعَرَفةُ ليسَتْ مِنَ الحَرمِ، وَكَانُوا إِذا أَحْرمُوا لَا يتناولون السّمن والأقط، ولَا يدْخلُونَ من أَبْوَاب بُيُوتهم، وكَانُوا يُسمون الْحمس؛ لأَنهم تحمّسوا فِي دينهم وتصلّبوا، والحماسة الشدَّة.

قَوْله: {ثمَّ أفيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس}

        وقَوْله: {ثمَّ أفيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} أي: سَائِر الْعَرَب غير الحمس، وَقيل: المُرَاد بالنَّاس آدم -عَلَيْهِ السَّلَام-، وَقيل: إِبْرَاهِيم، -عَلَيْهِ السَّلَام-، وقُرئ شاذّاً {من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسِ} يَعْنِي: آدم -عَلَيْهِ السَّلَام-.

        ويَحكي عُروةُ بنُ الزُّبَيرِ أنَّ خالَتَه أُمَّ المُؤمِنينَ عائِشةَ -رضي الله عنها- أخبَرَتْ أنَّ آيةَ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} (البقرة: 199). نزَلَتْ في الحُمْسِ، لِأنَّهم كانوا يُفيضونَ مِن جَمْعٍ مِنَ المُزدَلِفةِ، وهي المَكانُ الذي يَنزِلُ فيه الحَجيجُ بَعدَ الإفاضةِ مِن عَرَفاتٍ، ويَبِيتونَ فيه لَيلةَ العاشِرِ مِن ذي الحِجَّةِ، وفيه المَشعَرُ الحَرامُ، وهو بجِوارِ مِنًى، وتَبعُدُ عن عَرَفةَ حَوالَيِ (1 كم)، فأُمِروا بالذَّهابِ إلى عَرَفاتٍ، لِيَقِفوا بها، ثم يُفيضوا منها إلى مُزدَلِفةَ مع بَقيَّةِ النَّاسِ، وعَرَفاتٌ: جَبَلٌ يَقَعُ على الطَّريقِ بَيْنَ مَكَّةَ والطَّائِفِ، يَبعُدُ عن مَكَّةَ حَوالَيِ (22 كم)، وعلى بُعدِ (10 كم) مِن مِنًى، و(6 كم) مِن مُزدَلِفةَ. فالنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ترك ما كان في الحَجِّ مِن أعمالِ الجاهليَّةِ، وأقَرَّ ما أمَرَه اللهُ -سُبحانَه وتعالى- بإقرارِه.

معنى الحديث

       فمعنى الحديث: أنّ الإسلام قد غيَّر كثيراً من عادات الجاهلية وبيّن خَطأها، كما غير عاداتهم في أثناء الحجّ والعمرة، فكانت قريش ومَنْ اعتقد اعتقادها، وأخذ مأخذها من قبائل العرب، كخزاعة وبني عامر وغيرهم، يقفون بالمزدلفة لا يتجاوزونها، بل يُفيضُون منها إلى منى؛ وذلك لأنّ الشيطان اسْتهواهم، فقال لهم: إنكم إنْ عظَّمتم غيرَ حَرَمكم، استخفّ الناس بحَرَمكم! فكانوا لا يخرجُون مِنَ الحَرم، وهذا منْ جُملة ما غيّروه منْ دين إبراهيم -عليه السلام-. وكانوا يلقّبُون بالحُمْس، وسمّوا بذلك لما شدّدوا على أنفسِهم، وكانوا إذا أهلّوا بحجٍ أو عُمرة لا يأكلون لحْماً، وإذا قدِموا مكة وضعوا ثيابهم التي كانت عليهم. وكان بقية العرب غير الحُمْس، ومَنْ دانَ دينها يقفون بعرفة على العادة القديمة، والطريقة المستقيمة الموروثة عن إبراهيم -عليه السلام-، فلما جاء الإسلام أمَرَ الله نبيّه -صلى الله عليه وسلم - أنْ يأتي عَرَفات، فيقف بها اتّباعاً لدَين إبراهيم -عليه السلام-، ثمّ يدفع مِنْ عَرَفات إلى المزدلفة، فذلك قوله: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} أي: ادْفعوا أنفسكم، أو مطاياكم يا معشر قريش، من عرفات إلى مزدلفة مع بقية الناس.

من فوائد الحديث

  •  وجُوب الوقُوف بعرفة، وأنّ الحجّ لا يتِمُّ إلا به.
  •  بيان تفسير هذه الآية الكريمة {ثمَّ أفيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} وذلك أنّ قريشاً امتنعت منَ الوقُوف بعَرفة؛ لكونه خارج الحَرم، فأمروا به، فالمراد بالإفاضة: الإفاضة منْ عَرفة، وإن كان ظاهر سياق الآية أنها الإفاضة منْ مزدلفة؛ لأنها ذكرت بلفظة «ثم» بعد ذكر الأمر بالذكر عند المشعر الحرام.
  •  الوقوف بعرفة كان مِنْ شريعة إبراهيم -عليه السلام-، فكانت العرب متمسكة به، إلا ما كان مِنْ قريش، فهدى الله -تعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم - إليه.

الحديث الثاني

      في هذا الحَديثِ أيضًا: يَحكي جُبَيرُ بنُ مُطعِمٍ -صلى الله عليه وسلم - أنَّه ضَيَّعَ بَعيرًا له، فذَهَبَ يَطلُبُه يَومَ عَرَفةَ -وذلك في الجاهليَّةِ قبل الإسلام- حتى وَصَلَ إلى عَرَفاتٍ، فرأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - واقِفًا بعَرَفةَ كسائِرِ القَبائِلِ العَربيَّةِ الأُخرى غيرَ قُرَيشٍ وما شابَهَها، فقال: هذا واللهِ مِنَ الحُمْسِ، يُشيرُ بذلك إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم -، لِأنَّ الحُمْسَ هم: قُرَيشٌ، وكِنانةُ، وجَديلَةُ، سُمُّوا بذلك، لِتَحمُّسِهم وتَشَدُّدِهم في دِينِهم، ومحمدٌ -صلى الله عليه وسلم - منهم؛ لِأنَّه قُرَشيٌّ، فما بالُه يَقِفُ ها هُنا في عَرَفاتٍ وهو مِنَ الحُمْسِ؟! والحُمْسُ إنَّما يَقِفونَ بِمُزدلِفةَ ولا يَتجاوَزونَها إلى عَرَفةَ، لِئلَّا يَخرُجوا عن حُدودِ الحَرَمِ، وعَرَفةُ ليسَتْ مِنَ الحَرَمِ. والمُزدَلِفةُ: المَكانُ الذي يَنزِلُ فيه الحَجيجُ بَعدَ الإفاضةِ مِن عَرَفاتٍ، ويَبِيتونَ فيه لَيلةَ العاشِرِ مِن ذي الحِجَّةِ، وفيه المَشعَرُ الحَرامُ، وهو بجِوارِ مِنًى، وتَبعُدُ عن عَرَفةَ حَوالَيِ (12 كم).

       وكانَتْ طَوائِفُ العَرَبِ تَقِفُ في مَوقِفِ إبراهيمَ -عليه السَّلامُ- مِن عَرَفةَ، وكان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّ أنْ يَقتفيَ أثَرَ إبراهيمَ -عليه السَّلامُ-، ثم كان وُقوفُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم - -بَعدَ البَعثةِ- مع طَوائِفِ العَرَبِ بعَرَفةَ، لِيَدعُوَهم إلى الإسلامِ، وما افترَضَ اللهُ عليه مِن تَبليغِ الدَّعوةِ وإفشاءِ الرِّسالةِ.

فوائد الحديث

  •  مُخالَفةُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم - لِمَا كان عليه أهلُ الجاهليَّةِ، مِمَّا خالِفوا فيه دِينَ إبراهيمَ -عليه الصلاة والسَّلامُ-.
  •  كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَحفوظًا مِنَ اللهِ -سُبحانَه- قَبلَ البَعثةِ، وبَعدَها، وكان يَتعبَّدُ للهِ على الفِطرةِ الخالِصةِ، والدِّينِ القَويمِ، ويَتحَرَّى فِعلَ ما كان يَفعَلُه أبوه الخَليلُ إبراهيمُ -عليه الصلاة والسَّلامُ-.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك