رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي 30 ديسمبر، 2024 0 تعليق

شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: التّلبية والتّكْبير في الغُدُو مِنْ مِنَى إلى عَرَفة

  • يشرع التَّهليلُ والتَّكبيرُ للمُحرِمِ يومَ عَرفةَ مع أنَّ شِعارَ الإحرامِ التَّلبيةُ ففيه: بَيانُ سَعةِ الأمرِ في الذِّكرِ يَومَ عَرَفةَ
  • الحَجُّ عِبادةٌ عَظيمةٌ تَجتَمِعُ فيها كَثيرٌ مِن أنواعِ العِباداتِ ومَنْ كان حَجُّهُ خالِصًا للهِ مُوافِقًا لهَدْيِ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فليس له ثَوابٌ عندَ اللهِ إلَّا الجنَّةُ

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: «غَدَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَاتٍ، مِنَّا الْمُلَبِّي، ومِنَّا المُكَبِّرُ»، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الثَّقَفِيِّ: أَنَّهُ سَأَلَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رضي الله عنه - وهُمَا غَادِيَانِ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ-: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ فِي هَذَا الْيَوْمِ؛ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ فَقَالَ: «كَانَ يُهِلُّ الْمُهِلُّ مِنَّا فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، ويُكَبِّرُ الْمُكَبِّرُ مِنَّا فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ».

في الباب حديثان رواهما مسلم في الحج (2/933) باب: التّلْبية والتّكبير في الذّهاب إلى عَرفات في يوم عرفة، وروى البخاري الحديث الثاني في العيدين (970) باب: التكبير أيام منى وإذا غدا إلى عرفة.

الحَديثِ الأول

          في الحَديثِ الأول: يُخبِرُ الصَّحابيُّ الجَليلُ عبدُ اللهِ بنُ عُمرَ -رضي الله عنهما- أنَّهم كانوا مَعَ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في صَبيحةِ عَرفةَ، وكان ذلك في حَجَّةِ الوَداعِ في السَّنةِ العاشرةِ منَ الهِجرةِ، وعَرفةُ: جبلٌ يقَعُ على الطَّريقِ بينَ مكَّةَ وَالطَّائفِ، حيث يَبعُدُ عن مكَّةَ حَوالَيْ 22 كيلومترًا، وعلى بُعدِ 10 كيلومتراتٍ من مِنًى، و6 كيلومتراتٍ من مُزدَلِفةَ، وتُقامُ في عَرفةَ أهمُّ مناسِكِ الحجِّ، وهو الوُقوفُ به في اليومِ التَّاسِعِ من شَهرِ ذي الحِجَّةِ.

قوله: «مِنَّا الْمُلَبِّي ومِنَّا المُكَبِّرُ»

         أي: كان النَّاسُ معَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - منهم المُلبّي، أي: كان بَعضُهم يُلبِّي، فيَقولُ: لَبَّيْك اللَّهُمَّ لَبَّيْك، ويَرفَعُ بها صَوتَه، وفي رواية: «ومِنهمُ المُهِلُّ» يَعني: المُلبِّيَ، كما في رِوايةٍ أُخْرى لمسلِمٍ، فالإهْلالُ هوَ رفعُ الصَّوتِ بالتَّلْبيةِ، «ومِنهُم المُكبِّرُ» أيِ القائلُ: اللهُ أكبرُ، وفي هذا إشارةٌ إلى إقْرارِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لهم بهذه الأذْكارِ، سواءٌ أكان بالتَّكبيرِ أو بالتَّلبيةِ. وقيلَ: المرادُ أنَّه يُدخِلُ شَيئاً مِنَ الذِّكرِ خِلالَ التَّلبيةِ، لا أنَّه يَترُكُ التَّلبيةَ بالكُلِّيَّةِ؛ لأنَّ المَرويَّ عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه لمْ يَقطَعِ التَّلبيةَ حتَّى رَمَى جَمْرةَ العَقَبةِ. والتَّلبيةُ إنَّما تُشرَعُ للحاجِّ، وأمَّا لغَيرِ الحاجِّ في سائرِ البِلادِ؛ فيُشرَعُ له التَّكبيرُ مِن صُبحِ يومِ عَرَفةَ عَقِيبَ الصَّلواتِ المكتوبات، إلى صَلاةِ العَصْرِ مِن آخِرِ أيَّامِ التَّشريقِ. قال ابنُ عُمرَ -رضي الله عنهما- في رواية: «فأمَّا نحنُ فنُكبِّرُ» أي: أنَّه -رضي الله عنهما- اخْتارَ هو ومَن معَه التَّكبيرَ في حَجَّتِهم تلك.

فوائد الحديث

1- الحجُّ رُكنٌ مِن أَركانِ الإسْلامِ، وهوَ عِبادةٌ عظيمة، وتؤخَذُ أركانُه وسُنَنُه وآدابُه منَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. 2- مشروعية التَّهليلُ والتَّكبيرُ للمُحرِمِ يومَ عَرفةَ، مع أنَّ شِعارَ الإحرامِ التَّلبيةُ؛ ففيه: بَيانُ سَعةِ الأمرِ في الذِّكرِ يَومَ عَرَفةَ. 3- وفيه: بيانُ حِرصِ التَّابِعينَ على مَعرفةِ الأفضَلِ منَ السُّننِ والآدابِ.

الحَديثِ الثاني

في الحَديثِ الثاني: يُخبِرُ التابعيُّ محمَّدُ بنُ أبي بكرٍ الثَّقفيُّ أنَّه سَألَ أنَسَ بنَ مالكٍ - رضي الله عنه - عن الذِّكرِ المَشروعِ حِينَما يَدفَعُ الحُجَّاجُ مِن منًى إلى عرَفاتٍ، وكان هذا صَباحَ يومِ عرَفةَ، ويكونُ ذلك في اليومِ التاسعِ مِن ذي الحِجَّةِ.

قوله: «وهُمَا غَادِيَانِ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ»

         ومِنًى: وادٍ تُحيطُ به الجِبالُ، ويقَعُ شَرْقَ مكَّةَ، على الطَّريقِ بيْن مكَّةَ وجَبَلِ عَرَفةَ، ويَبعُدُ عن المسجدِ الحرامِ نحْوَ (6 كم) تَقريبًا، وفيه تُقامُ بَعضُ شَعائرِ الحجِّ؛ مِثلُ رمْيِ الجَمَراتِ. وعَرَفاتٌ: جَبَلٌ يقَعُ على الطَّريقِ بيْن مكَّةَ والطائفِ، ويُقامُ فيه أهمُّ مَناسِكِ الحَجِّ، وهو الوُقوفُ بعَرَفةَ يومَ التاسعِ مِن شَهرِ ذي الحجَّةِ. فأخْبَرَه أنسٌ - رضي الله عنه - أنَّهم عندَما حَجُّوا مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَجَّةَ الوداعِ في السَّنةِ العاشرةِ مِن الهِجرةِ، كان بَعضُهم يُلبِّي، فيَقولُ: لَبَّيْك اللَّهُمَّ لَبَّيْك، ويَرفَعُ بها صَوتَه، ولا يُنكِرُ عليهم النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، بيْنَما البَعضُ الآخَرُ يُكبِّرُ ويَقولُ: اللهُ أكبَرُ، ويَرفَعُ بها صَوتَه، ولا يُنكِرُ عليهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فإذا لمْ يُنكِرْ إظهارَ التَّكبيرِ للمُحرِمِ، الَّذي وَظيفتُه إظهارُ التَّلبيةِ، فلَغَيرُ المُحرِمِ مِن أهلِ الأمصارِ أَوْلى، وهذا إقرارٌ مِن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالذِّكرِ، سواءٌ كان بالتَّكبيرِ أو بالتَّلبيةِ. وقيل: المرادُ كما سبق: أنَّه يُدخِلُ شَيئًا مِن الذِّكرِ خِلالَ التَّلبيةِ، لا أنَّه يَترُكُ التَّلبيةَ بالكُلِّيَّةِ؛ لأنَّ المَرويَّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه لم يَقطَعِ التَّلبيةَ حتى رَمَى جَمْرةَ العَقَبةِ.

فوائد الحديث

1- دَليلٌ على أنَّ إظْهارَ التَّكبيرِ يومَ عَرَفةَ مَشروعٌ، ولو كان صاحبُه مُحْرِماً قاصِدًا عَرَفةَ للوُقوفِ بها، مع أنَّ شِعارَ الإحْرامِ التَّلبيةُ؛ ففيه: بَيانُ سَعةِ الأمرِ في الذِّكرِ يَومَ عَرَفةَ. 2- أنّ الحَجُّ رُكنٌ مِنْ أركانِ الإسلامِ، وهو عِبادةٌ عَظيمةٌ تَجتَمِعُ فيها كَثيرٌ مِن أنواعِ العِباداتِ، ومَنْ كان حَجُّهُ خالِصًا للهِ مُوافِقًا لهَدْيِ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فليس له ثَوابٌ عندَ اللهِ إلَّا الجنَّةُ؛ فلذلك يَنبغِي على العَبدِ أنْ يَتَعلَّمَ كيف حَجَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -.    

آثَارُ رَحْمَةِ اللهِ

         أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ آيَاتٍ تَدُلُّ عَلَى أُلُوهِيَّتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَتَصَرُّفِهِ فِي مُلْكِهِ، فَمَنْ تَدَبَّرَ وَتَفَكَّرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، فَهُوَ مِنْ أُولِي الْبَصَائِرِ وَالْأَلْبَابِ، مِمَّنْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِهِ، وَهُمْ أَوْلِيَاؤُهُ الْمُتَّقُونَ، وَعِبَادُهُ الْمُؤْمِنُونَ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى-: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (الزمر:21)، فَالْمَطَرُ وَتَسْيِيرُ الرِّيَاحِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، فَالْمُؤْمِنُ يَسْتَبْشِرُ إِذَا رَأَى فَضْلَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَيُوقِنُ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُغِيثُ، وَأَنَّ رَحْمَتَهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَأَثَرَهَا عَلَى الْخَلْقِ بِقَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌٌ} (الروم:٤8-50)، فَذَكَرَ اللَّهُ حَالَ الْخَلْقِ قَبْلَ نُزُولِ الْغَيْثِ أَنَّهُمْ مُبْلِسُونَ أَيْ: آيِسُونَ، وَأَخْبَرَ عَنْ كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَتَمَامِ نِعْمَتِهِ بِأَنَّهُ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ السَّحَابَ مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ يَبْسُطُ السَّحَابَ وَيَمُدُّهُ وَيُوَسِّعُهُ كَيْفَ يَشَاءُ، ثُمَّ يَجْعَلُهُ كِسَفًا أَيْ: سَحَابًا ثَخِينًا أَطْبَقَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ -، فَيُنْزِلُ الْمَطَرَ كَالْوَدْقِ، نُقَطًا صِغَارًا مُتَفَرِّقَةً، لَا تَنْزِلُ جَمِيعًا فَتُفْسِدَ مَا أَتَتْ عَلَيْهِ، فَيَسْتَبْشِرُ الْخَلْقُ بِنُزُولِ الْمَطَرِ لِشِدَّةِ حَاجَتِهِمْ وَضَرُورَتِهِمْ إِلَيْهِ، فَتَأَمَّلْ يَا عَبْدَ اللَّهِ أَثَرَ رَحْمَةِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَتَفَضُّلَهُ عَلَيْهِمْ؛ فَهَذِهِ نِعْمَةٌ تَسْتَلْزِمُ مِنَّا التَّأَمُّلَ وَالتَّدَبُّرَ وَالنَّظَرَ فِي أَسْبَابِهَا وَآثَارِهَا، وَمَا يَحْتَفِي بِهَا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَى مَلَكُوتِهِ وَقُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى!    

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك