رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الفرقان 25 أبريل، 2016 0 تعليق

الجَــــدَل في الكتاب والسُّنة (7)

أقوال السلف وأفعالهم: دلت على جَواز المناظرة، والمجادلة في بعض الأحيان، التي فيها نفع وفائدة

وقعت المناظرات بين السلف أنفسهم: من الصحابة فمن بعدهم، في كثير من المسائل والأحكام؛ مما يدل على جواز ذلك عندهم

 

يكثر في أيامنا هذه الجدل والنقاش في أمور كثيرة، والتنازع بموضوعات مختلفة، والتحاور في وسائل التواصل المتنوعة، ولا بد للمسلم من التزام الحدود الإسلامية في ذلك، ومراعاة الضوابط الشرعية، والآداب المرعية؛ فالمؤمن لا يخرج في شيء من نواحي حياته عن شريعة ربه {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} (الأنعام: 162-163).

، ونتكلم اليوم عن أقوال السلف وأفعالهم فنقول:

وكذلك أقوال السلف وأفعالهم: دلت على جَواز المناظرة، والمجادلة في بعض الأحيان، التي فيها نفع وفائدة.

قال ابن رجب: «قال كثيرٌ من أئمة السلف: ناظروا القدرية بالعلم، فإنْ أقرُّوا به خُصموا، وإنْ جحدوا فقدْ كفروا».

ومن ثنائهم على المناظرة إن كانت للتعلم: قول عمر بن عبد العزيز: «رأيت ملاحاة الرجال، تلقيحاً لألبابهم».

وقال عمر بن عبد العزيز أيضاً ومالك ابن أنس: «ما رأيت أحداً لاحى الرجال إلا أخذ بجوامع الكلم». قال يحيى بن مزين: يريد بالملاحاة، هنا: المخاوضة والمراجعة على وجه التعليم والتفهم والمدارسة، والله أعلم.

نقل ذلك عمر، ومالك من رواية يحيى بن مزين بن عبد البر في معرض استدلاله لإثبات المناظرة في باب مستقل من كتاب (جامع بين العلم) بعنوان (باب إثبات المناظرة والمجادلة).

- وأيضاً قد وقعت المناظرات بين السلف أنفسهم: من الصحابة فمن بعدهم، في كثير من المسائل والأحكام؛ مما يدل على جواز ذلك عندهم.

قال ابن عبد البر: «وأما تناظر العلماء وتجادلهم في مسائل الأحكام من الصحابة والتابعين ومن بعدهم فأكثر من أن تحصى وسنذكر منها شيئاً يستدل به». ثم ساق لذلك أمثلة منها:

قال زيد بن ثابت لعلي -رضي الله عنهما- في المكاتب: أكنتَ راجمُه لو زنى؟ قال: لا، قال: فكنت تجيز شهادته؟ قال: لا، قال: فهو عبدٌ ما بقي عليه درهم.

وناظر عبيد الله بن عمر أباه في المال الذي أعطاه إياه وأخاه أبو موسى -رضي الله عنهم- وقال عبيد الله: لو تلف المال ضمناه، فلنا ربحه بالضمان.

وناظر أبو هريرة عبد الله بن سلام -رضي الله عنهما- في الساعة التي في يوم الجمعة.

وهذا الذي ذكره ابن عبد البر -رحمه الله- هي أمثلة لبعض ما وقع بين السلف أنفسهم من مناظرات، وأما مناظرتهم لأهل البدع فهي كثيرة أيضا، نذكر بعضها، فمنها: مناظرة ابن عباس -رضي الله عنهما- للخوارج، كما جاء ذلك بالسند الصحيح عنه:

      قال ابن عباس -رضِي الله عنه-: لَمَّا خرجت الحَرُوريَّة، اعتَزلُوا في دارٍ على حدتهم، وكانوا ستَّة آلاف، فقلت لعلي: يا أمير المؤمنين، أبرِد بالصلاة، لعلِّي أكلِّم هؤلاء القوم. قال: إني أخافهم عليك! قلت: كلاَّ إن شاء الله، فلَبِستُ أحسنَ ما يكون من حُلَل اليمن، وترجَّلتُ، ودخلت عليهم في دارٍ نصف النهار وهم يأكُلون (هكذا في مُعظَم الروايات، وفيه رواية: وهم قائلون) في نحر الظهيرة.

فقالوا: مرحبًا بك يا ابن عباس، فما هذه الحُلَّة؟

قلت: ما تَعِيبون عليَّ؟ لقد رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسنَ ما يكون من الحُلَل، ونزلت: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: 32).

قالوا: فما جاء بك؟ قلت لهم: أتيتُكم من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار، ومن عند ابن عمِّ النبي صلى الله عليه وسلم وصهره، وعليهم نزل القرآن، فهم أعلم بتأوِيله منكم، وليس فيكم منهم أحدٌ؛ لأبلغكم ما يقولون، وأبلغهم ما تقولون.

فقال بعضهم: لا تُخاصِموا قريشًا؛ فإن الله يقول: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (الزخرف: 58).

قال ابن عباس: وما أتيت قومًا قطُّ أشد اجتهادًا منهم، مُسهِمة وجوههم من السهر، كأن أيديهم وركبهم تثنى عليهم، فمضى مَن حضر.

فقال بعضهم: لنُكَلِّمنَّه ولننظرنَّ ما يقول.

قلت: هاتوا ما نقمتم على أصحاب رسول الله  صلى الله عليه وسلم وابن عمِّه.

قالوا: ثلاث. قلت: ما هن؟

قال: أمَّا إحداهن، فإنه حكَّم الرجال في أمر الله، وقال الله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ} (الأنعام: 57)، ما شأن الرجال والحكم؟

قلت: هذه واحدة.

قالوا: وأمَّا الثانية، فإنه قاتَل ولم يَسْبِ ولم يغنم، إنْ كانوا كفَّارًا لقد حلَّ سبيهم، ولئن كانوا مؤمنين ما حلَّ سبيهم ولا قتالهم.

قلت: هذه ثِنتان، فما الثالثة؟

قالوا: ومَحَا نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أميرَ المؤمنين، فهو أمير الكافرين!

قلت: هل عندكم شيء غير هذا؟ قالوا: حسبنا هذا.

قلت لهم: أرأيتكم إن قرأت عليكم من كتاب الله جلَّ ثناؤه، وسنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم ما يردُّ قولكم، أترجعون؟ قالوا: نعم.

     قلت: أمَّا قولكم: حكَّم الرجال في أمر الله، فإني أقرأ عليكم في كتاب الله أن قد صيَّر حكمه إلى الرجال في ثمن ربع درهم؛ فأمر الله -تبارك وتعالى- أن يحكموا فيه، أرأيت قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}(المائدة: 95).وكان من حُكْمِ الله أنَّه صيَّره إلى الرجال يَحكُمون فيه، ولو شاء حكَم فيه، فجاز من حكم الرجال، أنشدكم بالله: أحكم الرجال في صَلاح ذات البين وحقن دمائهم أفضل، أو في أرنب؟ قالوا: بلى؛ بل هذا أفضل.

وقال في المرأة وزوجها: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا}(النساء: 35).

 فنشدتكم بالله: حكم الرجال في صلاح ذات بينهم، وحقن دمائهم، أفضل من حكمهم في بضع امرأة؟

قالوا: اللهم بل في حقن دمائهم وإصلاح ذات بينهم.

خرجت من هذه؟ قالوا: نعم.

     قلت: وأمَّا قولكم: قاتَل ولم يَسْبِ ولم يَغْنَم، أفتَسْبُون أمَّكم عائشة؟! تستحِلُّون منها ما تستَحِلُّون من غيرها وهي أمُّكم؟ فإن قلتم: إنَّا نستَحِلُّ منها ما نستَحِلُّ من غيرها فقد كفرتم، وإن قلتم: ليست بأمِّنا فقد كفرتم؛ {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} الأحزاب: 6).

فأنتم بين ضلالتين فأتوا منها بمخرج. فنظر بعضهم إلى بعض.

أفخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.

     وأمَّا قولكم: محا نفسَه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بما ترضون، قد سمعتم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية صالَح المشركين، فقال لعلي: «اكتب يا علي: هذا ما صالَح عليه محمد رسول الله، قالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتَلناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «امحُ يا علي، اللهمَّ إنك تعلم أني رسول الله، امحُ يا علي، واكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله»، فوالله لَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم خيرٌ من علي، وما أخرَجَه من النبوَّة حين محا نفسه، أخرجت من هذه.

قالوا: نعم.

فرجع منهم ألفان، وخرج سائِرُهم فقُتِلُوا على ضلالتهم، قتَلَهم المهاجرون والأنصار.

أخرجه النسائي في (الكبرى) والبيهقي وعبدالرزاق في (مصنفه)، والطبراني في (الكبير)، والحاكم في (المستدرك) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافَقَه الذهبي، وصحَّحه الهيثمي في (مجمع الزوائد).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك