السياسة والعلم جزء من شمولية الإسلام
من بديهيات الإسلام البسيطة التي يعرفها كل مسلم يطالع كتاب الله -عز وجل- أن الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله -عز وجل- للبشرية جمعاء، قال -تعالى-: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} (آل عمران: 19)، ومن يؤمن بأن الإسلام هو دين البشرية جمعاء، وهو الدين الذي جاء به الرسل والأنبياء جميعهم، ويؤمن بما قصّه علينا القرآن الكريم من أخبار الرسل والأنبياء، فضلا عمّا تعرفه البشرية من تاريخ الرسل والأنبياء مما يوافق القرآن الكريم، سيجد بوضوح أن الأنبياء والرسل استخدموا السياسة الشرعية، وقدموا النموذج الصحيح لها، ما يدل على أنها جزء من دين الإسلام؛ لتقويم مسيرة البشرية، حتى ختمت النبوة والرسالات بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم .
الأنبياء والسياسة
فقد كان من الأنبياء من هو ملِك وحاكم كداود وسليمان -عليهما السلام-، وكان يوسف -عليه السلام- وزير المالية في حكومة عزيز مصر، وكان موسى -عليه السلام- مخلّص اليهود من استعباد الفراعنة واستبدادهم، وكان شعيب -عليه السلام- معارضا للفساد الاقتصادي في قوم مديَن، وكان محمد - صلى الله عليه وسلم مع نبوته- يعقد المعاهدات والاتفاقيات مع العرب واليهود، ويراسل الحكام والملوك، ويقود الجيوش بنفسه، فضلا عن إدارته الداخلية لدولة المدينة المنورة.
صلة الأنبياء بالعلوم والمعارف
ومن يطالع القرآن الكريم سيجد بوضوح صلة الأنبياء بالعلوم والمعارف والصناعات، ورعايتهم لها ودعمهم لأهلها، فالأنبياء والرسل كانوا مشاعل العلم والمعرفة النافعة، وحربا على المشعوذين والدجالين، وحريصين على تنمية مجتمعاتهم ورقيّها، فنوح -عليه السلام- علمه ربُّه بناء السفن، وداود -عليه السلام- علمه ربه صنع الدروع الحديدية من الحلقات، وسليمان -عليه السلام- عُلّم منطق الطير، ويوسف -عليه السلام- علم إدارة المخزون الغذائي الاستراتيجي، وهذا كله سُخر لنهضة البشرية وتقدمها، وقد كان الله -عز وجل- قادرا على خلق سفينة لنوح دون تعب، وإنزال دروع لداود دون نصَب، وهكذا، لكن سنة الله -عز وجل- وسنة الأنبياء والرسل هي التعاطي مع الحياة بالأسباب الكونية التي خلقها الله -عز وجل.
الأخذ بالأسباب العلمية
والنبي - صلى الله عليه وسلم - شجّع أصحابه على تعلم العلوم المختلفة وتسخيرها لخدمة المسلمين، فقبِل فكرة حفر خندق حول المدينة، وتعامل مع المعلومات الأولية وتحليلها حين سأل عن عدد ذبائح جيش قريش ليقدّر عدد الجيش، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قادراً أن يسأل ربه كم عددهم؟ لكنه تعليم لأمته بأهمية أخذ الأسباب العلمية في إدارة الشؤون السياسية والعسكرية، والتوافق مع سنن الله -عز وجل- في الكون.
القرآن الكريم والسنة النبوية
واشتمال الإسلام اليوم على السياسة والعلم هو امتداد لهذا الأصل، لكل من يطالع القرآن الكريم وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيرته العطرة، فالقرآن الكريم والسنة النبوية مليئان بالآيات والأحاديث التي تتناول جوانب السياسة، من الحكم والقضاء والمعاملات والتحالفات والحرب والسلم، بحسب متغيرات الحياة وتقلباتها، ودعوى فصل الدين عن السياسة هي جزء من صراع الإسلام في المجال السياسي مع دعاة التغريب والإلحاد.
سياسة الدنيا بالحق والعدل
شرع الله الإسلام دينا للبشرية ليقود الدنيا بالحق والعدل، فيحقق لهم الأمن والسعادة، أما الزعم بأن السياسة شر وخبث وكذب، فهذه سياسة المنحرفين عن الجادة، فبعد أن ضلوا عن حقيقة الوجود، وأنكروا أن الله -عز وجل- خلق هذا الكون كله، وأنه تحت أمره وحكمه، كان طبيعياً أن يعتقدوا أن الأصل في السياسة -فيما بينهم- تقوم على المكر والخداع.
الحق والعدل
بينما المسلمون الذين يؤمنون بأن الله -عز وجل- خلق البشر مكرمين محترمين من نسل نبي هو آدم -عليه السلام-، كان طبيعياً أن يعتقدوا أن الحق والعدل هما أساس السياسة الشرعية التي تصلح البشرية، وهذا ما شهد به تاريخ البشرية من أن الأنبياء والرسل وأتباعهم ما قادوا الأمم إلا للخير والسعادة والعدل والأمن، وأن البشرية حين تنحرف عن سياسة الأنبياء والرسل الشرعية تنهار وتتدمر؛ بسبب ظلمهم وعدوان بعضهم على بعض، وبسبب استفحال المنكرات والفواحش التي تُنزل بهم العقوبات الربانية.
الفوضى والظلم
والواقع اليوم خير شاهد على الفوضى والظلم اللذين ينتشران بسبب السياسات المضادة للإسلام، برغم الرقي العلمي، إلا أن العالم تزداد فيه الحروب، وتكثر فيه المشكلات المناخية، وتنهار فيه الدول والمجتمعات، وتستفحل فيه المجاعات، فضلا عمّا يعانيه الناس من أزمات نفسية ازدادت معها حالات الانتحار، حتى عند الأغنياء والمشاهير، مما يستدعي ضرورة العودة للسياسة الشرعية الإسلامية لإنقاذ العالم وليس المطالبة بفصل الإسلام عن السياسة!
علاقة الإسلام بالعلم والمعرفة
أما علاقة الإسلام بالعلم والمعرفة فهي علاقة وثيقة؛ فالإسلام يقرر من البداية أن هذا الكون كله من خلق الله -عز وجل- {الله خالق كل شيء} (الرعد: 16)، وأنه خلق هذا الكون والوجود على نظام محكم بديع، قال الله -تعالى- عن الشمس: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (يس: 38)، ووصف -سبحانه- نفسه بقوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (البقرة: 117)، أي خلق السماوات والأرض على غير مثال سابق وبإبداع عظيم دقيق.
وبعد أن خلق الله -عز وجل- هذا الخلق البديع كرم الله -عز وجل- أصل البشرية وهو آدم -عليه السلام- بتعليمه الأسماء لجميع المخلوقات، {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (البقرة: 31-32).
الأمر بالقراءة والتعلم
وجعل الله -عز وجل- بداية نزول الرسالة الخاتمة على البشرية الأمر بالقراءة والتعلم في الكتاب المفتوح والكتاب المنزل {اقرأ باسم ربك الذي خلق} (العلق: 1)، وبعد ذلك حث الله -عز وجل- عباده على التعلم واكتساب المعارف في هذا الكون الفسيح {قل سيروا في الأرض ثم انظروا} (الأنعام: 11).
العلم الصحيح يتوافق مع الإسلام
فلا مصادمة بين الإسلام وبين العلم ومعارفه واكتشافاته؛ لأن العلم الصحيح يتوافق مع الإسلام، أما ما وقع من صدام بين العلم والدين وبعض رجالاته، فهذا صدام -في الحقيقة- بين العلم والدين المحرف.
ولذلك جاءت كثير من آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - لتدل على بعض الحقائق العلمية التي لم تكن معروفة في زمن نزول الوحي، ومع الأيام عرف بعضها، ولا تزال هناك حقائق لم يصل إليها العلم الحقيقي، فضلا عن أنه لم يحدث ولن يحدث أن تصادم الوحي قرآنا وسنة مع أي حقيقة علمية.
التفسير الديني للحقائق العلمية
بل إن التفسير الديني للحقائق العلمية في الإسلام هو التفسير العلمي لها، وهو مقتضى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أنتم أعلم بأمر دنياكم» رواه مسلم، ولذلك لم يعرف تاريخ الإسلام تجريما لعالم على اكتشاف أو رأي علمي، بخلاف ما حصل مع أديان محرفة أخرى، لكن قبول الإسلام للتفسير العلمي للعلوم لا ينفصل عن الإقرار بأن هذه القوانين العلمية من خلق الله -عز وجل-، وأنه هو من جعلها سبباً لمسبباتها، بخلاف الملاحدة الذين ينكرون وجود الخالق -عز وجل.
وأيضاً الإسلام لا يقبل دعاوى بعض الجهلة الذين حاربوا العلم والمعرفة، ورفضوا الأخذ بالأسباب بزعم أنهم متوكلون، فهذا منهج منحرف يخالف سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأخذ بالأسباب الصحيحة في شؤونه وشؤون المسلمين وهو أعظم المتوكلين.
إن محاولة تجزئة الإسلام وحصره في الجانب الشخصي والروحاني محاولة باطلة شرعاً، وفاشلة تاريخاً وواقعاً، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُون} (الأنفال: 36).
لاتوجد تعليقات