رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: هيام الجاسم 26 يناير، 2025 0 تعليق

وجاءكم النذير!

  • التعلّق بالله والاستعانة به عزوجل في كل حال واللجوء إليه وتفويض الأمر إليه يحقق للمرء انشراح الصدر وراحة النفس
  • دين الإسلام منظومة متكاملة الأركان لم يترك لنا جانبا إلا وعلمنا إياه ربنا عزوجل ونبيّه [ ومن ذلك مكانة كبير السن في المجتمع

مرحلة المشيب محطة تقدير وتكريم وإجلال للإنسان، وهي تعد آخر مرحلة من مراحل عمره مهما طال عمره وصار معمّرا، إنها مرحلة الشيخوخة، ومرادفها (مرحلة المشيب)، التي يُتصف المرء فيها بالضعف، وهي مليئة بالتغيرات الظاهرة والباطنة والواضحة، التي يجدر بالمرء أن يدركها ويعيها ويتهيأ لها، فهي مرحلة حرجة لا محالة قادمة مهما رأى الإنسان في نفسه القوة والنشاط والحيوية وشبابية القلب، إلا أنّه سيواجه لحظة الضعف الذهني والبدني والتراجع في القدرات والإمكانات، فهي آتية ومقبلة لا محالة.

       وحتى لا ينتاب الإنسانَ شيءٌ من الانزعاج والمخاوف والمقاومة اللامنطقية؛ لتراجع إمكاناته وتكالب الأمراض عليه، بل والأحزان أو المفاجآت، وشعوره بالعجز في تلك المرحلة والهروب من مواجهتها، كان لابد ولزاما عليه أن يتعرّف كثيرا على تلك المرحلة التي ستطرق أبوابه واقعًا حتميا، مهما طال به العمر ومهما نشط في حياته، ومهما بذل الإنسان من الأسباب للمحافظة على قوته وقدراته إلا أنه في لحظة ما سيرى من نفسه عجزا متدرجا شيئا فشيئا لا يقدر على إنكاره، أو منعه، وسيضطر للاستسلام له!

        ستأتي اللحظة التي يُصاب بها بمتلازمات الشيخوخة من أمراض، وهي عادة أمراض شائعة تصيب كبير السن، بدءًا بالستين من العمر تقريبا: أمراض الضغط والسكر والقلب وسلس البول، وتكرار السقوط والهذيان والوهم، وما إلى ذلك من أوضاع فقدان السمع وإعتام عدسة العين، وغيرها من أمراض كبار السن الشائعة.

التعلّق بالله والاستعانة به -سبحانه-

        أعزائي القراء، حتى يظل البال هادئا، والنفس مستقرة، والانشراح سائدًا في نفس كبير السن، في حال تبدلت أحواله، ولا سيما عند فقد الأحبة من جيله، فإنّ التعلّق بالله والاستعانة به -عزوجل- على كل حال واللجوء إليه وتفويض الأمر إليه، يحقق للمرء انشراح الصدر، وتقبل واقعه.

        ولا شك أن قارئ القرآن وحافظه والمتعبد به، حتما تختلف أحواله في شيخوخته، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن يعمّر في الإسلام، لتسبيحه وتكبيره وتهليله»، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «خياركم أطولكم أعمارًا وأحسنكم أعمالاً»، ويقول عكرمة - رضي الله عنه -: من قرأ القرآن لم يُردّ إلى أرذل العمر، وعن طاووس قال: إنّ العالم لا يخرف. ويقول عبدالملك بن عمير: كان يقال: إنّ أبقى الناس عقولا قرّاء القرآن.

الاستعاذة من أرذل العمر!

       قرائي الأعزاء، لقد استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من الردّ إلى أرذل العمر؛ إذ قال في الدعاء الذي أخرجه البخاري: «اللهم إني أعوذ بك أنْ أُردّ إلى أرذل العمر» استنادا لقول الله -تعالى-: {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} (الحج:٥). وفي تفسير السعدي -رحمه الله تعالى- يقول: أرذل العمر أي أخسّه وأنقصه؛ لأنّ الإنسان إنما تنقص فيه قواه الظاهرة والباطنة، حتى قواه العقلية تنقص، فينسى الإنسان ما كان يعلمه، ويقول الإمام النووي: أما استعاذته - صلى الله عليه وسلم - من الهرم في حديث آخر، فالمراد به الاستعاذة من الرد إلى أرذل العمر؛ وسبب ذلك الخرف واختلال العقل والحواس والضبط والفهم، وتشويه بعض المنظر (يعني تغير هيئة الإنسان في حال كبره) والعجز عن كثير من الطاعات والتساهل فيها.

الله -تعالى- يتولى عباده

       عزيزي القارئ، إنّ الله -تعالى- يتولى عباده حينما يتقدم بهم العمر فيهرمون ويشيخون، والله يمهل، لكن إذا بلغ العبد الستين، فلا عذر له إذا مات مفرطا؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أعذر الله إلى امرئ، أخّر أجله حتى بلّغه ستين سنة»، فالله يمدّ في أعمار عباده ويريهم من آياته ودلائل قدرته الشيء الكثير؛ لعلهم يرجعون إليه ويتوبون ويزدادون قربى، فمنهم المهتدي ومنهم من يستمر على ضلاله وقد أعذر من أنذر!

        يقول رب العزة في كتابه العزيز: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} (فاطر:٣٧)، وقد جاء في تفسير النذير هنا في الآية معانٍ عدة منها: القرآن، وقيل السنة، وقالوا أيضًا الشّيب، وقيل أيضا: كمال العقل، وموت الأهل والأقارب، والأكثر في تفسيرها المراد بالنذير: هو الشيب؛ لأنه يأتي في سن الكهولة فما بعدها، وهي علامة لمفارقة سن الصبا الذي هو مظنة اللهو، قال ابن جرير الطبري -رحمه الله تعالى-: احتج الله عليهم بالعمر والرسل.

الإسلام منظومة متكاملة

        أعزائي القراء، دين الإسلام منظومة متكاملة الأركان؛ فلم يترك لنا جانبا إلا وعلمنا إياه ربنا -عز وجل- ونبيّه - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكتفِ دين الإسلام ببيان مكانة كبير السن في المجتمع وبين الناس، ولم يكتفِ بتوصية الأبناء بآبائهم، وإن كان هذا الجانب هو الذي طغى في فهم الناس ولا يعرفون شيئا غير هذا (بر الوالدين وتقدير كبير السن)، بينما في منظومة الإسلام هناك جوانب كثيرة جدا في تطور نفسية كبير السن، كيف يفكر؟ وكيف يفهم الأمور وينظر لمن حوله؟ وما المخاوف التي يعانيها ويخفيها عن أحبائه من حوله؟ ودور الأبناء في توسيع صدرهم عند رفض كبير السن لأمور كثيرة، والفجوة الكبرى في التفكير بين الشباب والكبار، التي تسفر عن مشكلات ينبغي تقليصها وتجاوزها؛ فكبير السن عليه أن يتسامى عن صغائر الأمور، والشباب مطلوب منهم فهم نفسيات كبار السن في هذه المرحلة العمرية؛ كي لا يخسر أحدهما الآخر، ويؤدّون ما عليهم في المحك الحقيقي ساعة البر والإحسان لعجائزهم.

من حقوق كبير السن توقيره وطيب معاملته

        إن من المكارم العظيمة، والفضائل السامية البر والإحسان إلى الضعفاء، ورعاية حقوقهم، والقيام بواجباتهم؛ وتعاهد مشكلاتهم، والسعي في إزالة المكدرات والهموم والأحزان عن حياتهم، فإن هذا من أعظم أسباب التيسير والبركة، وانصراف الفتن والمحن والبلايا والرزايا عن العبد، وسبب للخيرات والبركات المتتاليات عليه في دنياه وعقباه، لقد جاء في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما تُنصَرون بضعفائكم».

         ومن حقوق كبير السن توقيره وإكرامه بأن يكون له مكانة في النفوس، ومنزلة في القلوب، وكان ذلك مِن هدي النبي -صلى الله عليه وسلم -، وقد حث رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عليه، وجعله مِن هديه وسماته وصفاته، فقد أوجب نبينا -صلى الله عليه وسلم - احترام كبار السن، والسعي في خدمتهم؛ فرُوي عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: جاء شيخ يريد النبي -صلى الله عليه وسلم - فأبطأ القوم عنه أن يوسعوا له، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا، ويأمر بالمعروف ويَنْهَ عن المنكر»،؛ لذلك لابد من  حسن معاملة كبير السن، بحسن الخطاب، وجميل الإكرام، وطيب الكلام، وسديد المقال، والتودد إليه؛ فإن إكرام الكبير وإحسان خطابه هو في الأصل إجلال لله -عز وجل-؛ فقد جاء في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم -: «إن مِن إجلال الله: إكرامَ ذي الشيبة المسلم»، وبدأه بالسلام مِن غير انتظار إلقاء السلام منه؛ احترامًا وتقديرًا له، فنسارع ونبادر بإلقاء السلام عليه بأدبٍ ووقار، واحترام وإجلال، بمعاني التوقير والتعظيم، بل نراعي كِبَرَ سنه في إلقاء السلام بحيث يسمعه ولا يؤذيه، فقد جاء في الحديث النبوي الشريف: «يسلم الصغير على الكبير، والراكب على الماشي»، ومِن حقوق كبير السن في هذا الشأن إذا حدثنا أن نناديه بألطف خطاب، وأجمل كلام، وألين بيان، نراعي فيه احترامه وتوقيره، وقدره ومكانته، بأن نخاطبه بـ(العم) وغيره من الخطابات التي تدل على قدره ومنزلته في المجتمع بكبر سنه، فعن أبي أمامة بن سهل: قال: صلينا مع عمر بن عبدالعزيز الظهر، ثم خرجنا حتى دخلنا على أنس بن مالك فوجدناه يصلي العصر، فقلت: يا عم، ما هذه الصلاة التي صليت؟ قال: العصر، وهذه صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - التي كنا نصلي معه.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك


X