رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: وحيد عبدالسلام بالي 3 يونيو، 2010 0 تعليق

الطريق إلى الولد الصالح (1) دور الأم في صناعة الأجيال

 إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
 
فإنه لا مخرج لنا من الأزمة التي نحن فيها إلا بالعودة إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً وتطبيقاً، وتحكيم الكتاب والسنة في كل أمورنا صغيرها كبيرها، عظيمها وحقيرها، ثم تنشئة أولادنا على ذلك وغرس حب الله - عز وجل - والرسول صلى الله عليه وسلم  في قلوبهم، وتعويدهم منذ الصغر على التضحية من أجل هذا الدين والعمل لرفعة هذا الدين وبذل الغالي والرخيص في سبيل إعلاء هذا الدين، وقتها سيعود جيل خالد بن الوليد، وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص، وقتها سيسود المسلمون العالم كما ساده أجدادهم من قبل {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ}(الروم: 4- 5).
 
من أجل ذلك كتبت هذه الكلمات سائلا المولى تبارك وتعالى أن ينفع بها في حياتي وبعد مماتي إنه أكرم مسؤول، وصلِّ اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 
الولد الصالح هو خير كنز يتركه المسلم من بعده، فهو نافع لأبويه في حياتهما وبعد موتهما؛ ولذلك يقول النبي[: «إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».
 
بل إن الذرية الصالحة يجمع شملها من آبائها الصالحين في الجنة: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} (الطور: 21)، فعلى المسلم أن يأخذ بالأسباب لنيل الولد الصالح، وهذه الأسباب نجملها فيما يأتي:
 
1- اختيار الأم:
على المسلم أن يختار لأبنائه الأم المسلمة التي تعرف حق ربها، وحق زوجها، وحق ولدها، والأم التي تعرف رسالتها في الحياة، الأم التي تعرف موقعها في هذه المحن، الأم التي تغار على دينها، وعلى سنة نبيها صلى الله عليه وسلم .
 
وذلك لأن الأم هي المصنع الذي سيصنع فيه أبناؤك، وهي المدرسة التي سيتخرجون فيها، فإن كانت صالحة أرضعتهم الصلاح والتقوى، وإن كانت غير ذلك فكذلك.
 
وهذه نماذج تخرجت في مدرسة الأم:
يقول محمد المقدم: لا تكاد تقف على عظيم ممن راضوا شمس الدهر وذلت لهم نواصي الحادثات، إلا وهو ينزع بعرقه وخلقه إلى أم عظيمة، كيف لا يكون ذلك والأم المسلمة قد اجتمع لها من وسائل التربية ما لم يجتمع لأخرى ممن سواها؟ مما جعلها أعرف خلق الله بتكوين الرجال، والتأثير فيهم، والنفاذ إلى قلوبهم، وتثبيت دعائم الخلق العظيم بين جوانحهم وفي مسارب دمائهم.
 
فالزبير بن العوام:
قامت بأمره أمه صفية بنت عبد المطلب فنشأ على طبعها وسجيتها. والكملة العظماء عبد الله والمنذر وعروة أبناء الزبير ثمرات أمهم أسماء بنت أبي بكر، وما منهم إلا له الأثر الخالد والمقام المحمود.
وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - تنقل في تربيته بين صدرين من أملأ صدور العالمين حكمة، وأحفلها بجلال الخلال، فكان مغداه على أمه فاطمة بنت أسد، ومراحه على خديجة بنت خويلد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعبد الله بن جعفر سيد أجواد العرب وأنبل فتيانهم تركه أبوه صغيراً، فتعاهدته أمه أسماء بنت عميس ولها من الفضل والنبل مالها.
 
ومعاوية بن أبي سفيان أريب العرب وألمعيها ورث عن هند بنت عتبة ما لم يرث عن أبي سفيان، وهي القائلة- وقد قيل لها ومعاوية وليد بين يديها: «إن عاش معاوية ساد قومه»- ثكلته إن لم يسد إلا قومه»، وكان معاوية - رضي الله عنه - إذا نوزع الفخر بالمقدرة، وجوذب بالمباهاة بالرأي انتسب إلى أمه فصدع أسماع خصمه بقوله: «أنا ابن هند».
وأبو حفص عمر بن عبد العزيز أورع الملوك، وأعدلهم وأجلهم، أمه أم عاصم بنت عاصم ابن عمر بن الخطاب، أكمل أهل دهرها كمالاً، وأكرمهن خلالاً، وأمها تلك التي اتخذها عمر لابنه عاصم وليس لها ما تعتز به من نسب وحسب إلا ما جرى على لسانها من قول الصدق في نصيحتها لأمها، وهي التي نزعت به إلى خلائق جده الفاروق.
وأمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر الذي ولي الأندلس وهي ولاية تميد بالفتن، وتشرق بالدماء، فما لبثت أن قرت له، ثم خرج في طليعة جنده، فافتتح حصناً في غزوة واحدة.
 
ثم أمعن بعد ذلك في قلب فرنسا وتغلغل في أحشاء سويسرا وضم أطراف إيطاليا، حتى ريض كل أولئك له، ورجف لبأسه، وبعد أن كانت قرطبة دار إمارة إسلامية يذكر اسم الخليفة على منابرها، وتمضي باسمه أحكامها، أصبحت مقر خلافة يحتكم إليها عواهل أوروبا وملوكها، ويختلف إلى معاهدها علماء الأمم وفلاسفتها.
أتدرى ما سر هذه العظمة، وما مهبط وحيها؟
إنها المرأة وحدها، فقد نشأ عبد الرحمن يتيماً إذ قتل عمه أباه فتفردت أمه بتربيته وإيداع سر الكمال وروح السمو في ذات نفسه، فكان من أمره ما علمت.
 
وسفيان الثوري، وما أدراك ما سفيان الثوري؟! إنه فقيه العرب ومحدثهم، وأحد أصحاب المذاهب الستة المتبوعة، إنه أمير المؤمنين في الحديث الذي قال فيه زائدة: «الثوري سيد المسلمين»، وقال الأوزاعي: «لم يبق من تجتمع عليه الأمة بالرضا إلا سفيان».
 
وما كان ذلك الإمام الجليل، والعلم الشامخ، إلا ثمرة أم صالحة، حفظ التاريخ لنا مآثرها وفضائلها ومكانتها. روى الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله بسنده عن وكيع قال: «قالت أم سفيان لسفيان: يا بني، اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي».
فكانت - رحمها الله- تعمل، وتقدم له؛ ليتفرغ للعلم، وكانت تتخوله بالموعظة والنصيحة، قالت له ذات مرة فيما يرويه الإمام أحمد أيضاً: «يا بني إذا كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك، فإن لم تر ذلك فاعلم أنها تضرك، ولا تنفعك»، فهل ترى من غرابة بعد هذا أن نرى سفيان يتبوأ منصب الإمامة في الدين، كيف وهو قد ترعرع في كنف مثل هذه الأم الرحيمة، وتغذى بلبان تلك الأم الناصحة التقية؟!
والإمام الثقة الثبت إمام أهل الشام وفقيههم، أبو عمرو الأوزاعي.
 
يقول فيه أبو إسحق الفزاري: «ما رأيت مثل رجلين: الأوزاعي، والثوري فأما الأوزاعي فكان رجل عامة، والثوري كان رجل خاصة، ولو خيرت لهذه الأمة، لاخترت لها الأوزاعي؛ لأنه كان أكثر توسعا، وكان والله إماما».
 
قال النووي رحمه الله: «وقد أجمع العلماء على إمامة الأوزاعي وجلالته وعلو مرتبته، وكمال فضله، وأقاويل السلف - رحمهم الله- كثيرة مشهورة مصرحة بورعه وزهده وعبادته وقيامه بالحق وكثرة حديثه، وغزارة فقهه، وشدة تمسكه بالسنة، وبراعته في الفصاحة، وإجلال أعيان أئمة عصره من الأقطار له واعترافهم بمرتبته».
 
ذلك الحبر البحر كان أيضاً ثمرة أم عظيمة، قال الذهبي: قال الوليد بن مزيد البيروتي: ولد الأوزاعي ببعلبك، وربي يتيماً فقيراً في حجر أمه، تعجز الملوك أن تؤدب أولادها أدبه في نفسه، ما سمعت منه كلمة فاضلة إلا احتاج مستمعها إلى إثباتها عنه. ولا رأيته ضاحكاً يقهقه، ولقد كان إذا أخذ في ذكر المعاد أقول: تُرى في المجلس قلب لم يبك؟!
 
وهذه أم (ربيعة الرأي) شيخ الإمام مالك أنفقت على تعليم ولدها ثلاثين ألف دينار خلفها زوجها عندها، وخرج إلى الغزو، ولم يعد لها إلا بعد أن استكمل ولده الرجولة والمشيخة، وكانت أمه قد اشترتهما له بمال الرجل، فأحمد الرجل صنيعها، وأربح تجارتها في قصة ساقها ابن خلكان قال:
وكان فروخ أبو ربيعة خرج في البعوث إلى خراسان أيام بنى أمية، وربيعة حمل في بطن أمه، وخلف عند زوجته (أم ربيعة) ثلاثين ألف دينار، فقدم المدينة بعد سبع وعشرين سنة، وهو راكب فرساً، وفي يده رمح، فنزل ودفع الباب برمحه، فخرج ربيعة، وقال: يا عدو الله أتهجم على منزلي؟
فقال فروخ: يا عدو الله، أنت دخلت على حرمي؛ فتواثبا حتى اجتمع الجيران، وبلغ مالك بن أنس فأتوا يعينون ربيعة، وكثر الضجيج، وكل منهما يقول: لا فارقتك، فلما بصروا بمالك سكتوا، فقال مالك: أيها الشيخ لك سعة في غير هذه الدار، فقال الشيخ: هي داري، وأنا فروخ، فسمعت امرأته كلامه، فخرجت وقالت: هذا زوجي وهذا ابني الذي خلفه وأنا حامل به.
فاعتنقا جميعا وبكيا، ودخل فروخ المنزل، وقال: هذا ابني؟
فقالت: نعم.
قال: أخرجي المال الذي عندك.
قالت تعرّض: قد دفنته وأنا أخرجه، ثم خرج ربيعة إلى المسجد، وجلس في حلقته، فأتاه مالك والحسن، وأشراف أهل المدينة، وأحدق الناس به.
 
فقالت أمه لزوجها فروخ: اخرج فصل في مسجد رسول الله[، فخرج، فنظر إلى حلقة وافرة، فأتاها فوقف عليها، فنكس ربيعة رأسه يوهمه أنه لم يره، وعليه قلنسوة طويلة، فشك أبوه فيه، فقال: من هذا الرجل? فقيل: هذا ربيعة بن أبي عبد الرحمن.
فقال: لقد رفع الله ابني، ورجع إلى منزله، وقال لوالدته: لقد رأيت ولدك على حالة ما رأيت أحداً من أهل العلم والفقه عليها.
فقالت أمه: فأيهما أحب إليك.. ثلاثون ألف دينار أم هذا الذي هو فيه؟
فقال: لا والله، بل هذا.
فقالت: أنفقت المال كله عليه.
قال: فوالله ما ضيعتِه. اهـ.
هذه هي الأم المسلمة التي جلست في بيتها، وأنتجت لنا أعظم ثروة، صنعت الرجال العظماء الذين قادوا البشرية إلى الخير والرشاد. 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك