
تحقيق نسبة التكفير إلى ثلاثة من أعيان الدعاة إلى منهج السلف (2)
موقف شيخ الإسلام من التكفير واضح كالشمس لا يُعْوِز الباحث إلي التنقيب والتفتيش فهي منثورة في عامة كلامه لا تخطئها عين
شيخ الإسلام ابن تيمية أكثر من أصَّل للتفريق بين النوع والعين في إطلاق الأحكام
مركز سلف للبحوث والدراسات
لا يعرف عن دعوة من الدعوات نفرتها من الفكر التكفيري كما عُرف عن الدعوة السلفية عبر تاريخها الطويل وامتدادها الجغرافي في العالم الإسلامي، سواء على نطاق التنظير أم الممارسة العملية، وبإمكان أي باحث أن يعقد مقارنة بين نسبة التكفير عند السلفيين لخصومهم ونسبته عند الفرق المخالفة وعندها يقف المرء متحيراً، كيف أُلصِقَت هذه التهمة بالسلفية والسلفيين؟! واستكمالا لهذا الموضوع نتكلم اليوم عن موقف شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – من التكفير.
موقف شيخ الإسلام من التكفير واضح كالشمس، لا يُعْوِز الباحث إلى التنقيب والتفتيش، فهي منثورة في عامة كلامه لا تخطئها عين وهو القائل عن نفسه: «هذا مع أني دائماً ومن جالسني يعلم ذلك مني، أني من أعظم الناس نهياً عن أن يُنْسَبَ معينٌ إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا عُلِمَ أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى، وإنِّي أُقَرِّرُ أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية».
التفريق بين النوع والعين
وهو -رحمه الله- من أكثر من أصَّل للتفريق بين النوع والعين في إطلاق الأحكام، فقال: «وكنت أُبَيِّن أن ما نُقِل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا، فهو أيضاً حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين إلى أن قال: والتكفير هو من الوعيد؛ فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحدُه حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها وإن كان مخطئاً .
وكنت دائماً أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: «إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذُرُّونِي في اليم؛ فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين؛ ففعلوا به ذلك، فقال الله: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك. فغفر له».
فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذُرِّي، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك.
والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بالمغفرة من مثل هذا، وإنصافه للطوائف والفرق المخالفة مشهور، رغم عداوتهم له، بل وتكفيرهم إياه وسعيهم في إيذائه بكل طريق .
يقول رحمه الله : «هذا وأنا في سعة صدر لمن يخالفني فإنه وإن تعدى حدود الله فيَّ بتكفيرٍ أو تفسيقٍ أو افتراءٍ أو عصبيةٍ جاهليةٍ، فأنا لا أتعدى حدودَ الله فيه، بل أضبط ما أقولُه وأفعلُه وأزِنُه بميزان العدلِ، وأجعلُه مؤتماً بالكتاب الذي أنزله الله وجعله هدىً للناس حاكما فيما اختلفوا فيه».
التفصيل وعدم التعميم
واتَّسَمَ كلامُه بالتفصيل وعدمِ التعميم الجائر في الأحكام، فهو يقسم الذين يسبون الصحابة إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الغلاة، الذين يقولون بما يناقض المعلوم من الدين بالضرورة كأُلُوهِيَّة أحد من أهل البيت أو نُبُوَّتِه أو تحريف القرآن، أو من جعل للقرآن تأويلات باطنية تسقط الصلوات الخمس والصيام وتبيح المحرمات المتواترة، ونحوها من الأقوال الغالية، كأقوال النصيرية والدروز والإسماعيلية والبهرة والقرامطة، بل يقول عن النصيرية :إنهم أكفر من اليهود والنصارى.
القسم الثاني: الذين يسبون أبا بكر وعمر وغيرهما من الصحابة، فَيَنْقُل الخلافَ في تكفيرهم ويُرَجِّح أن قولهم كفر ، ولكن لا يُكَفَِرُ المعين منهم إلا بعد إقامة الحجة.
القسم الثالث: وهم المُفَضِّلَة، الذين يُفَضِّلُون علياً على أبي بكر وعمر، فهي وإن كانت بدعة إلا أنها ليست كفراً بلا خلاف، وأما تفضيل علي على عثمان في الفضل مع الإقرار بصحة خلافة كل واحد منهما فهي من مسائل الاجتهاد ولا تبديع فيها، وكان خلافاً قديما لأهل السنة ثم انعقد الإجماع على أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، فانظر – رحمك الله – إلى هذا التقسيم والدقة والإنصاف في إعطاء كل ذي حق حقه !
وأما الخوارج والمعتزلة فَيَنْقُلُ فيهم خلافا ويرجح عدم التكفير بالعين، وإن كانت المقالة كفراً كما سبق .
أما موقفه من الأشاعرة -الذين ناصبوه العداء، وسعى بعضهم في إيذائه بكل طريق- فتأمل أخي هذه النصوص: قال -رحمه الله- في معرض ذكره لذم السلف لأهل الكلام من الأشاعرة وغيرهم: «وإن كان في كلامهم من الأدلة الصحيحة وموافقة السنة ما لا يوجد في كلام عامة الطوائف، فإنهم أقرب طوائف أهل الكلام إلى السنة والجماعة والحديث، وهم يعدون من أهل السنة والجماعة عند النظر إلى مثل المعتزلة والرافضة وغيرهم، بل هم أهل السنة والجماعة في البلاد التي يكون أهل البدع فيها هم المعتزلة والرافضة ونحوهم».
ويقول عنهم: «إنهم أقرب الطوائف إلى أهل السنة، بل دافع عنهم لما ذكر عن أبي إسماعيل الأنصاري صاحب ذم الكلام أنه من المبالغين في ذم الجهمية قال: «ويبالغ في ذم الأشعرية مع أنهم من أقرب هذه الطوائف إلى السنة».
وقال في مناسبة أخرى: «وهم في الجملة أقرب المتكلمين إلى مذهب أهل السنة والحديث.
ويَنْقُلُ الإجماع على عدم تكفيرهم فيقول: «ليسو كفاراً باتفاق المسلمين» (انظر لمزيد من البحث كتاب الشيخ عبدالرحمن المحمود علاقة ابن تيمية بالأشاعرة).
إنصاف الصوفية
بل أنصف الصوفية بميزانه الدقيق نفسه فيقول: ولأجل ما وقع في كثير منهم من الاجتهاد والتنازع فيه، تنازع الناس في طريقهم؛ فطائفة ذمت الصوفية والتصوف، وقالوا : إنهم مبتدعون، خارجون عن السنة، ونقل عن طائفة من الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف، وتبعهم على ذلك طوائف من أهل الفقه والكلام .
وطائفة غلت فيهم، وادَّعَوا أنهم أفضل الخلق، وأكملهم بعد الأنبياء وكلا طرفي هذه الأمور ذميم.
و الصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله، كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب .
ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه، عاص لربه .
وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة؛ ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم : كالحلاج مثلا؛ فإن أكثر مشايخ الطريق أنكروه، وأخرجوه عن الطريق . مثل: الجنيد بن محمد سيد الطائفة وغيره.
فهل يمكن لمنصف بعد ذلك أن يَدَّعي أن ابن تيمية هو منبع فكر التكفير والغلو؟
لاتوجد تعليقات