
فيض القدير في تبرئة السلفية من الغلو والتكفير (1) مفاهيم خطأ حيال المنهج السلفي
عني المنهج السلفي بضبط النظرة والحكم على الآخرين من خلال الظواهر لصعوبة اختراق ما في القلوب والبصائر
كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم؛ لأن الكفر حكم شرعي
ومن هنا كان فهم منهج السلف في العقيدة والعبادات والعادات والأخلاق والسلوكيات، والتعرف على موقف المنهج السلفي من القضايا التي تقوم عليها حياة الناس المعاصرة من الضرورة بمكان، ولاسيما في ظل هذا اللغط الفكري، واللبس الثقافي، والخلط والإشكاليات وسط أدعياء كثيرين كل منهم يدعي أنه السلفي، وأنه الفرقة الناجية، وأن العلم يؤخذ منه وينتهي عنده.
دفع شبهة ربط المنهج السلفي بالتكفير
إن الحكم بالكفر على الناس بلا حجة ولا برهان ولا اختصاص غير معتبر له عند السلفية؛ فمنهجهم الاستقامة الفكرية، ومسلكهم الصراط المستقيم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: والصراط المستقيم يتضمن معرفة الحق والعمل به، كما في الدعاء المأثور: «اللهم أرني الحق حقاً ووفقني لاتباعه، وأرني الباطل باطلاً ووفقني لاجتنابه ولا تجعله مشتبهاً علي فأتبع الهوى»، وفي (صحيح مسلم) عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول: «اللهم رب جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السموت والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، فمن خرج عن الصراط المستقيم كان متبعا لظنه وماتهواه نفسه، {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين}، وهذا حال أهل البدع المخالفة للكتاب والسنة؛ فإنهم إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس؛ ففيهم جهل وظلم، ولاسيما الرافضة، فإنهم أعظم ذوي الأهواء جهلا وظلما، يعادون خيار أولياء الله -تعالى- من بعد النبيين من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه».
ولقد بلغ الفهم المغلوط سنام الخطر حين نشر الفكر التكفيري المدسوس على السلفية رداءه الأسود على الكون؛ حيث تأسست تحزبات فكرية تكفيرية متشددة كلها تدعي السلفية، ونظرا لعدم النظر الدقيق وضعف الفقه في مجال الأحكام والتحقيق، فقد اتسعت دائرة التكفير من الفرد إلى الجماعة، وكثرت الخلايا السرية التي تفرزها قراءات خاصة ومفاهيم خطأ لا يعرفها أهل العلم.
وليست معاناة المجتمعات من الشتات الفكري إلا من هؤلاء الأدعياء بأفكارهم المغالية التي انعكست عن محصلة أدمغة مفخخة بالشر والعدوان، بعيدا عن وسطية المنهج السلفي، فهم أوقدوا مجامر القلوب بحمية الاعتدال ودرء التكفير، ومعلوم أن موقفهم حاسم وثابت في رفض التكفير لمن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله مادام قائما بحقوق هذه الشهادة، التي هي شعار الإسلام العصمة للدماء والأموال والحقوق.
ويأتي دفع شبهة التكفير عن السلفية من طرائق عدة، أهمها:
أولاً: الوعي الكامل بمسألة التكفير وخطورتها:
سلم أتباع السلفية تسليما لكتاب الله -تعالى- وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانتهوا عما نهى الله عنه، ونفذوا ما أمروا به، وأمسكوا عن التكفير إذعانا لنصوص عدة، منها:
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ۚ كَذَٰلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}(النساء: 94)، قال ابن عباس: كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون، فقال: السلام عليكم، فقتلوه، وأخذوا غنيمته، فأنزل الله في ذلك إلى قوله: {تبتغون عرض الحياة والدنيا}، تلك الغنيمة، و{ألقى إليكم السلام} نطق بالشهادتين أو حياكم بتحية الإسلام {لست مؤمناً} أي تقولون: لم يؤمن حقيقة إنما نطق بالإسلام تقية، وقد نبههم القرآن ونهاهم عن التصدير على ما في القلوب، وأنه من ضروب ركوب الأخطار، وخوض الغمار، ومد إليهم حبلا فاصلا ليعتصموا به عند ورود ما يثير سخائم القلوب ويؤلب المنابذات، يقول الإمام القرطبي في تفسير الآية السابقة: إن في هذا التوجيه الإلهي من الفقه باب عظيم، وهو أن الأحكام تناط بالمظان والظواهر، لا على القطع واطلاع السرائر، فالله لم يجعل لعباده غير الحكم بالظاهر.
فعن أبي ذررضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يرمي رجل رجلا بالفسوق، ولا يرميه بالكفر، إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك»، وذلك أول الوهن، تعود كلمة التكفير على قائلها إن لم يكن في صاحبه ما قال.
وتظل موجة التكفير المغرقة العاتية في صورتها جامحة مجنونة، تلهبها سياط الألسنة الطاغية الشاردة القاتلة المحمومة بعيدا عن السلفية الحقة، يقول النبيصلى الله عليه وسلم : «ومن رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله».
وقد عني المنهج السلفي بضبط النظرة والحكم على الآخرين من خلال الظواهر لصعوبة اختراق ما في القلوب والبصائر؛ بحيث لا تضطرب النظرات والقلوب ولا تتأرجح، ولا يكتنفها الشقاق في زاوية من زواياها، فإنه لا يسارع إلى التكفير إلا الجهلة، وينبغي الاحتراز من التكفير ما وجد الإنسان إلى ذلك سبيلا، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة، المصرحين بقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطأ في سفك دم محجمة من دم مسلم.
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيما رجل قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما».
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: مبرئا ساحة السلف من غلاة التكفير السلفية: كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم؛ لأن الكفر حكم شرعي؛ فليس للإنسان أن يعاقب بمثله كمن كذب عليك وزنى بأهلك ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله؛ لأن الزنا والكذب حرام لحق الله -تعالى- وكذلك التكفير حق لله -تعالى- فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله وأيضا، فإن تكفير الشخص المعين وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها، وإلا فليس كل من جهل شيئا من الدين يكفر، وقال أيضا: وحقيقة الأمر أن القول قد يكون كفرا؛ فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال من قال كذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قال ذلك لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة.
تلك هي المشارب الصافية من معين منهج النبي صلى الله عليه وسلم الذي ساق أفئدة أصحابه على أنساق تتناغم مع نظم وتوجيه القرآن وورثها السلف تواترا؛ فقد ورد أن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قتل رجلا شهر عليه السيف، فقال: «لا إله إلا الله»، فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم أشد الإنكار، وقال: «أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله»؟ فقال: إنما قالها تعوذا من السيف، فقال: «هلا شققت عن قلبه»؟! وفي بعض الروايات: كيف لك بـ«لا إله إلا الله» يوم القيامة؟!
وهذا المنهج هو عين وراثه السلف الصالح، أما عدم الوزانة وفقدان الرزانة في الحكم على بواطن الناس؛ فذلك أول الوهن في الانزلاق في هاوية سحيقة ومنهج السلف بريء من ذلك.
لاتوجد تعليقات