شرح كتاب التفسير من مختصر مسلم للمنذري – 38 (سورة الفرقان ) اتساع باب التوبة
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. والحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. والحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة ونورا للمؤمنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
2156- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا، ثُمَّ أَتَوْا مُحَمَّدًا[ فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو لَحَسَنٌ، وَلَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً ، فَنَزَلَ {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا}، وَنَزَلَ {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}.
الشرح:
هذا الحديث في سورة الفرقان ، وهي سورة مكية، وقد أخرجه الإمام مسلم في كتاب الإيمان، وبوب عليه النووي: كون الإسلام يهدم ما قبله، وكذا الحج ، والهجرة، الإسلام يهدم ما قبله، الحج يهدم ما قبله، الهجرة تهدم ما قبلها.
يقول ابن عباس رضي الله عنه: «إن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا» يعني: أسرفوا على أنفسهم في القتل، والزنا، وارتكاب الفواحش، والمحرمات والكبائر.
قوله: «ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: إن الذي تقول وتدعوا إليه لحسن» دعوتك والإسلام الذي تدعو إليه أمر حسن ، وأمر جميل ، ودين عظيم ، ولو تخبرنا أن لما فعلنا أو لما علمنا كفارة ، لأسلمنا وآمنا، ودخلنا في دينك، وهذا سائغ في اللغة العربية وهو أن يحذف جواب السؤال، إذا كان معلوما للسامع، كما ورد ذلك في كثير من الآيات، كما في قوله تعالى مثلا: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يرجع بعضهم إلى بعضهم القول..} (سبأ : 31} ولم يذكر تعالى الجواب؟ والجواب: لو رأيت حالهم، لرأيت أمرا عظيما وجللا.
وكذا قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ}.
فهؤلاء قالوا: لو تخبرنا أن لما عملنا من الآثام كفارة لأسلمنا، يعني هم كانوا يرغبون بالتوبة، وقد أحبوا الإسلام، ودين الإسلام، لكن ردهم عنه أنهم أكثروا من الكبائر، وأسرفوا على أنفسهم ، فنزلت الآية الكريمة: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ..} (الفرقان: 68)، وهذه كبائر الذنوب وعظائم الأمور ، فالشرك هو فساد الأديان، والقتل فساد الأبدان، والزنا فساد الأعراض والنسل، وكلها كبائر عظيمة تتعلق بالضروريات الخمس التي بها قوام حياة الناس، ولا تتم مصالح بني آدم إلا بها، وهي: حفظ الدّين، وحفظ النفس، وحفظ العرض، وحفظ المال، وحفظ النسل، ولهذا خصها الله سبحانه وتعالى بالذكر في الآية، فقال: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ..} (الفرقان: 68) {لا يدعون} يعني: لا يسألون ويطلبون، فالدعاء بمعنى السؤال والطلب والإلتجاء إلى غير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، فهم لا يشركون بالله عز وجل، بل يخلصون له العبادة {ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق }؛ فلا يعتدون على الأنفس المعصومة، من مسلم أو كافر معاهد {إلا بالحق} أي: بالقصاص النفس بالنفس، وقتل الزاني المحصن، والمرتد عن دينه : { وَلَا يَزْنُونَ} لا يقعون في جريمة الزنا، {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} قال ابن عمرو: هو واد في جهنم، وقيل: يجازى جزاءً شراً لآثامه التي ارتكبها ، وهو ما ذكره بقوله: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُيَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: يغلّظ عليه ويكرّر {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} (الفرقان: 68 - 69)، يخلد في العذاب ، والخلود هو البقاء الطويل، وهو أبدي سرمدي إذا جمع هذه الثلاث، إذا جمع بين الشرك والقتل والزنا، خلد في نار جهنم، وكذا إذا اقتصر على الشرك، لكن إذا بريء من الشَّرك لا يخلد في نار جهنم، ولو زنا أو سرق، وهذا بنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية ، قال تعالى: { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48 ، 116).
فالخلود هو لأهل الشرك والكفر، وأما أهل الكبائر ، فإنهم لا يخلدون في النار.
وقوله: {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} (الفرقان: 70) أي من تاب إلى الله عز وجل توبة صادقة، تاب الله عليه، وان كان قد أشرك بالله تعالى، وإن كان قد قتل، وان كان قد سرق، أو زنا أو شرب الخمر، فمن تاب وندم وأقلع عن ذنبه ورجع إلى الله سبحانه وتعالى فان الله يتوب عليه.
ونزل أيضا جواباً لهؤلاء الذين جاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: «إن الذي تدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما فعلنا كفارة» نزل قول الله تعالى في سورة الزمر: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر : 53)، وهذه الآية في الحقيقة فيها تلطفٌ عظيم بالعصاة وأصحاب الكبائر ، وأول ما يدل على اللطف فيها: أن الله عز وجل ناداهم ونسبهم إلى نفسه ، فقال (قل يا عبادي) فهذا ترفقٌ بهم منه سبحانه وتعالى، أي فأنتم عبادي وأنتم خلقي، والله سبحانه وتعالى هو خالقكم وهو الذي يناديكم سبحانه، فيقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} (الزمر : 53) يعني بالغوا في ارتكاب الذنوب والمعاصي والسيئات، وأكثروا وكرروا إلى حد الإسراف في هذا الباب: {لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} لا تيأسوا من رحمة الله، والقنوط هو اليأس {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} لمن تاب إليه وهو حي، فمن تاب إليه وهو حي فان الله يغفر ذنبه كله، ولو كان قد أشرك بالله أو كفر، أما بعد الموت فان الله لا يغفر للمشرك أبدا، كما قال تعالى أيضا: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (المائدة: 72).
وقوله: {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، {الغفور}: كثير المغفرة وهذه صيغة مبالغة، والرحيم البالغ الرحمة، فهذا من الترهيب للذي كانوا على الكفر والشرك والكبائر وأرادوا العودة إلى الله عز وجل رغبهم بهذه الترغيبات نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا.
سورة ألم تنزيل السجدة
باب : في قوله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (السجدة : 17).
2157- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه[: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ، ذُخْرًا بَلْهَ مَا أَطْلَعَكُمْ اللَّهُ عَلَيْهِ ثُمَّ قَرَأَ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُن}.
الشرح:
سورة السجدة وتسمى أيضا بسورة : ألم تنزيل السجدة، تميزا لها عن بقية السور المتشابهة التي افتتحت بـ ألم وروى فيها حديثان ولذلك قال باب في قوله تعالى: {فلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} وهذا الحديث: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قد أورده الإمام مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها.
قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يقول الله عز وجل...» أي أن الحديث حديث قدسي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل.
قوله: يقول الله عز وجل: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت» أي: لم تر عينٌ ما أعددت لعبادي الصالحين، ولم تسمع أذن بما أعددت لعبادي، ولا خطر على قلب بشر ما أعددت لعبادي، وهذا نفيٌ عام، فلا توجد عين رأت ما أعد الله لعباده الصالحين في جنات النعيم، وهذا العام مخصوص بما رآه النبي صلى الله عليه وسلم من رؤيا العين في ليلة المعراج، وما رآه النبي صلى الله عليه وسلم في منامه مما قصه على الصحابة في حديث الرؤيا الطويل، ورؤيا الأنبياء حق، فربنا سبحانه وتعالى قد أعد في الجنان مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} من الزكوات والنفقات الواجبة، والصدقات المستحبة، سرا وعلنا.
وهؤلاء لما كانوا يقومون ولا يشعر بهم أحد، كان الجزاء من جنس العمل، فقال الله تعالى: {فلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ}، يعني ما تقر به الأعين من النعيم، (فلا تعلم) يعني على وجه التفصيل، أما على وجه الإجمال فنحن نعلم أن هناك جنات وأشجار وثمار، وقصور وبيوت، ولباس من الحرير والسندس، وحلي من الذهب، وأواني من الذهب والفضة، ومآكل ومشارب رفيعة وغيرها، لكن هذا كله على وجه الإجمال بالنسبة للحقيقة، فمن حيث التفصيل نحن لا نعلم ما أعد الله تعالى للمؤمنين من النعيم، أما من حيث الإجمال فنحن نعلم جزاء ما كانوا يعملون، مما ذكر الله تعالى من أعمالهم الصالحة التي تقدم ذكرها.
لاتوجد تعليقات