
وقفات مع قصة ذي القرنين الجماعية ونبذ الفردية
(فأعينوني بقوة) تلك الكلمة التي نطق بها ذو القرنين، وهو من هو في قدرته وقوته وتمكنه من النفوذ في أقطار الأرض وقيادة الناس كما قال الله تعالى واصفا إياه في كتابه: (إنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً)، قال الشيخ السعدي في تفسيره: « مكنه من النفوذ في أقطار الأرض، وانقيادهم له، وأعطاه الله من الأسباب الموصلة له لما وصل إليه، ما به يستعين على قهر البلدان، وسهولة الوصول إلى أقاصي العمران»، ثم لنتأمل حال من طلب التعاون معهم من الذين وصفهم الله تعالى بقوله :(قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا) أي: استعجمت ألسنتهم وأذهانهم وقلوبهم.
جاءت تلك الكلمة بوضوح لتعلي قيمة العمل الجماعي في مواجهة النزعة الفردية والعمل الفردي الذي يتبناه بعضهم بل ويدعو غيره إليه لأسباب قد يتحقق بعضها في أشخاص وقد تجتمع كلها عند بعضهم الأخر، ومن هذه الأسباب :
المحافظة على التميز
- تميز الشخص في مجال من المجالات مع تفاوت في القدرات بينه وبين غيره من الأفراد مع ظنه أن المحافظة على التميز لابد فيها من الانفرادية، مع شعوره -كما يظن- أنه لا يوجد في من يتميز عنه في هذا المجال أو يستطيع أن يحل محله.
وهذه شبهة ضحدها ذو القرنين الذي أوتي من كل شيء سببا، ومكن له في الأرض؛ حيث وضع قدراته ومهاراته وما أوتي من أسباب جنبا إلى جنب مع قدرات من هم أقل منه شأنا وفهما وقدرة ليحدثوا ذلك التكامل المنشود لمنع الفساد، كما قال تعالى على لسان ذي القرنين: (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا).
هم: (يجمعون قطع الحديد)، وهو: يساويها.
هم: (يوقدون النار وينفخون عليها..)، وهو يفرغ النحاس على الحديد..
وهكذا في مشهد تعاوني رائع، مستغلا لهذه القدرات المتفاوتة، محققا للهدف المنشود بنتيجة أعلى مما كان يتصور صاحبها حين سعى لبناء هذا السد.
طبيعة العمل التعاوني
العمل التعاوني يحتاج إلى مراحل انتقالية يمر بها ليصل إلى ثمرته المرجوة، مع عدم الصبر لتخطي هذه المراحل، وهنا وجب علينا معرفة هذه المراحل حتى نكون على بينة بما يمر به العمل الجماعي من تغيرات لندرك كيف نتعامل معها وهذه المراحل تتمثل في:-
(1) مرحلة التكوين:
وهي أولى خطوات التحول من الفردية إلى الجماعية، وهي مرحلة اختبار يكتشف فيها الفرد العلاقات الملائمة مع أعضاء فريق العمل ويكتشف فيها البيئة النفسية والاجتماعية للعاملين معه، ويبدي الأعضاء في هذه المرحلة سلوكا يكون خليطا من الأدب والمجاملة والتعامل الرسمي مع الآخرين ومحاولة فهـم المهـمة المطلوبة والبحث عن مصادر للمعلومات، ومحاولة التعرف على المشكلات المحتملة وطرق مواجهتها.
وقد تظهر الشكاوى في هذه المرحلة من الأفراد بسبب الصعوبات المتوقعة سواء أكانت حقيقية أم وهـمية، وكذلك يظهر بعض الضيق والتبرم والتردد والإحجام بسبب عدم استكمال احتياجات هذه المرحلة على الوجه الأكمل، وتتمثل في دعم للأفراد مع سرعة في تقديم المعلومات الكافية لهم لتوضيح رسالة المؤسسة وأهدافها والمهـام المطلوبة منهم وتدريبهم على أداء هذه المهام والتركيز على المهارات التي تنقصهـم، مع بيان معايير النجاح والفشل وإبراز السلوك المرغوب والمرفوض منهم ...
(2) مرحلة الصراع العاصفة:
و هي أصعب المراحل في بناء العمل الجماعي؛ حيث يبحث فيها كل عضو عن مكانه ومكانته، وتبدو فيها الأهداف صعبة أو غير قابلة للإنجاز، وقد ينفذ فيها صبر الأعضاء فيجادلون ويعترضون ويقاومون، وينشأ النزاع بينهـم وقد يترك بعضهـم العمل بالكلية .
ويسود في هذه المرحلة شعور بتضارب وجهات النظر والمقاومة والرفض والحيرة، ويبدي الأعضاء في هذه المرحلة سلوكا يتسم بالجدال والمناقشة والتحدي والتنافس والصراع، واستخدام وسائل الدفاع السيكولوجية من إسقاط وتسويغ وانسحاب وهجوم ، كما يبدؤون في التشكيك في الأهداف والمهام، ويميل بعضهـم إلى الدفاع الشديد عن وجهة النظر الشخصية مع فقدان السيطرة على الأعصاب مع نفرة مستقبلية شديدة من العمل الجماعي.
وهذه المرحلة إن استمرت أكثر من اللازم فإنها تمنع أي انجازات مستقبلية ملموسة لفريق العمل.
لذلك فإن هذه المرحلة تحتاج إلى كثرة التذكير بفضيلة الاحتساب والأجر المترتب على هذا العمل الجماعي، مع إعادة توضيح الأهداف، ومعرفة لأنماط الشخصيات ونشر لحقوق الأخوة الإيمانية، واستخدام كل الأساليب المتاحة لحل النزاع من توفيق وتقريب لوجهات النظر وتكيف ومشاركة .
(3) مرحلة التناغم ووضع القواعد:
وفي هذه المرحلة يبدأ قبول الأعضاء لبعضهـم بعضا، وللأدوار التي سيؤدونها، وتتميز هذه المرحلة بانخفاض حدة النزاع وبدء التعاون ثم تزايده تدريجيا، وهي مرحلة وسيطة تمهد للمرحلة التالية وهي مرحلة الإنتاجية وأداء المهام . وفي هذه المرحلة يتم وضع القواعد للعلاقات والمعاملات بين الأفراد، ويغلب على الأعضاء الراحة النفسية لحل النزاعات والالتزام والعزم على التعاون والمشاركة والعمل على تسوية الخلافات وتبادل المعلومات والصراحة والتعبير عن المشاع، وتكون العلاقات الاجتماعية والشخصية مرحة ومسترخية. وتحتاج هذه المرحلة إلى تشجيع مشاركة الأفراد وتنمية الالتزام الذاتي والشعور بالمسـؤولية وإعطاء المعلومات اللازمة وبدء عمل خطط وجداول للعمل مع توفير التدريب اللازم لتنفيذ تلك الخطط...
(4) مرحلة الإنتاج والأداء
وهي مرحلة الإنتاج المثمر على أرض الواقع؛ حيث يبدأ الأعضاء في القيام بأدوارهـم ويمارسون تخصصاتهـم المهنية أو الوظيفية-كل في مجاله- ويمارسون علاقات التعاون والترابط، ويتعرف كل عضو على دوره ويتفهـم كل عضو نواحي القوة والضعف لديه ولدى الآخرين، ويفكر لأعضاء في طرق زيادة الفاعلية؛ حيث تبدأ خطوات التقدم ونتائجه في الظهور وتنمو الرغبة في أداء الدور المطلوب عن طريق التعاون والقدرة على التنبؤ بالمشكلات، والرغبة في تفاديها أو علاجها، وتحمل المخاطرة من أجل إنجاز وتحقيق الهدف.
إعطاء الفرصة للأفراد
ومع هذه الأسباب أيضا يجب إعطاء الفرصة للعمل الفردي الذي يُصنع على أعين هيئات والمنظمات، ويستخدم فيه أفراد سواء بمعرفتهم أم لا، عن طريق فتح المساحات لهم وإعطائهم الحرية الحركية للانتفاش المطلوب بهدف مرحلي يسعى لتغيير القناعات -ولاسيما عند الشباب- بعدم جدوى وجود العمل الجماعي ودفعهم إلى الترويج لمرحلة وسيطة مؤقتة تحت ما يسمى باسم: (الجماعات الوسيطة)، أو إن شئت فقل: (المجموعات الوسيطة): التي تُبنى على رموز فردية يتميز بعضها في مجال معين، ويتميز بعضها الآخر في مجال آخر، ولكلٍ أتباع لا يَهتمون ولا يُوجَهون إلا إلى مجال تميز تلك النماذج، والتي تَصنع مع الوقت اعتدادا بالذات، ونماذج فردية بعيدة عن الشمولية الموجودة في صورة الكيان الجماعي المتماسك والمؤثر في المجتمع بمجموع أعماله وشمولية مجالات عمله المتكاملة -حتى على ضعفه-.
حيث يسهل مع الوقت التأثير على تلك النماذج الفردية أو إطفاء جذوتها من خلال مساحة تأثير محدودة محسوبة لا تستطيع معها أن تواجه الفساد مواجهة شاملة أو حتى تقلله أو تحقق الإصلاح الشامل المنشود أو حتى تقترب منه قدر المستطاع. لذلك وبناءً على ما ذكرناه فإن هذه الكلمة القرآنية: {فأعينوني} ليست مجرد حروف تقرأ، إنما هي توجيه لأمر عملي مشروع له أدلته الشرعية.
لاتوجد تعليقات