
من السنن الإلهية الثابتة التي لا تتبدل ولا تتغير – فقه التعامل مع الفتن (١)
- الفتن من السنن الإلهية الثابتة التي لا تتبدل ولا تتغير وينبغي لنا أن نتعلم فقهها لنحسن التعامل معها
- الفتن نوعان: خاصة وهي فتنة الرجلِ في أهلهِ ومالهِ وولدهِ وجارهِ، وفتنة عامة وهي التي تعمُّ الصالحَ والطالحَ والذكرَ والأنثى والكبيرَ والصغيرَ
- تعدد أحاديث الفتن دليل على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على بيان طبيعة الطريق وأنه يلزم الأمة أن تؤهل نفسها للفتن وأن تأخذ بأسباب النجاة منها لأنها من الخطورة بمكان
- بالرغم من أن الفتن لها آثارها السلبية لكن المؤمن يحولها إلى محضن تربوي يسمو به ويرتقي معه
- جاءت نصوص الكتاب والسُّنة تحذر من الفتن وأسبابها ودواعيها وهذه الفتن لها أثر سلبيّ كبير على الفرد والمجتمع والأمم وأعظمها تأثيرًا ما كان في الدين
- المتأمل في واقعنا اليوم يرى حجم الفتن ويرى في مقابلها الجهل بها والزهد في طلب العلم في ظل مناهج كثيرة منحرفة موجودة على الساحة
- إننا في مرحلة انتقالية حرجة جدا لا نستطيع تجاوزها إلا بالعلم الشرعي والتأهيل الجيد حتى نخرج من الفتن أقوى مما دخلنا فيها
- حكمة الله تعالى تقتضي أن كل من ادعى الإيمان لنفسه أن يبتلى حتى يميز الصادق من الكاذب
- كان للصحابة رضي الله عنهم اهتمام خاص بقضية الفتن ولذلك حرصوا على بيان أسباب النجاة منها
الفتن من السنن الإلهية الثابتة التي لا تتبدل ولا تتغير، التي ينبغي أن نتعلم فقهها لنحسن التعامل معها؛ لأننا إن تعاملنا معها بغير علم كان المفقود كبيرا، والأثر وخيما، ولا شك أنَّ واقع أمتنا في مشارق الأرض ومغاربها، ما هو إلا نتيجة لجهل فقه التعامل مع الفتن؛ لذلك فالواجب علينا أن نهتم بهذه القضية ونحرص على توريثها للأجيال لتأمين الطريق لهم، يسيرون عليه بتؤدة، وليورثوا هذا المنهج للأجيال التالية؛ لأنه ما من يوم يمر إلا والفتن تزداد.
وعندما نتحدث عن الفتن فإننا نجد أنَّ منها الخاص ومنها العام، الخاص كفتنة الرجل في أهله وماله وولده، وأما الفتنة العامة فهي التي تصيب الأمة بمجموعها ومن أمثلتها قديمًا وحديثًا، مما وقع ومما لم يقع: ظهور الخوارج، وفتنة القول بخلق القرآن، وظهور مدعي النبوة، وقبض العلم ورفعه، ونزول الجهل وكثرته، وظهور المعازف واستحلالها، وفتنة الدجال، وكثرة القتل.. وغير ذلك مما يصيب الأمة بعامة، والفتن لا تخرج غالبًا عن أصلين، الشهوات والشبهات بوصفهما مادة للامتحان، أي قد تأتي بما في ظاهره الشر، وقد تأتي بما في ظاهره الخير.أولاً: كيف تَحَدّثَ القرآن عن الفتنة؟
الصحب الكرام مروا بمراحل لا تخفى عليكم، وكأني بهم يشتكون لنبينا - صلى الله عليه وسلم-، فينزل القرآن للفت أنظارهم لهذه القضية المهمة، {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}، (العنكبوت: 2-3)، قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: يخبر -تعالى- عن تمام حكمته، وأنها لا تقتضي أن كل من قال: «إنه مؤمن» وادعى لنفسه الإيمان، أن يسلم فيها من الفتن والمحن، ولا يعرض له ما يشوش عليه إيمانه وفروعه، فإنه لو كان الأمر كذلك، لم يتميز الصادق من الكاذب، والمُحق من المبطل، ولكن سنته وعادته في الأولين وفي هذه الأمة، أن يبتليهم بالسراء والضراء، والعسر واليسر، والمنشط والمكره، والغنى والفقر، وإدالة الأعداء عليهم في بعض الأحيان، ومجاهدة الأعداء بالقول والعمل ونحو ذلك من الفتن، التي ترجع كلها إلى فتنة الشبهات المعارضة للعقيدة، والشهوات المعارضة للإرادة، فمن كان عند ورود الشبهات يثبت إيمانه ولا يتزلزل، ويدفعها بما معه من الحق وعند ورود الشهوات الموجبة والداعية إلى المعاصي والذنوب، أو الصارفة عما أمر اللّه به ورسوله، يعمل بمقتضى الإيمان، ويجاهد شهوته، دل ذلك على صدق إيمانه وصحته، ومن كان عند ورود الشبهات يتأثر قلبه شكا وريبا، وعند اعتراض الشهوات تصرفه إلى المعاصي أو تصدفه عن الواجبات، دلَّ ذلك على عدم صحة إيمانه وصدقه.الابتلاء بالخير والشر
وقال القرآن أيضًا عن الفتنة فقال: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}، والمعنى باختصار: قد تُبتلى أخي المسلم بما في ظاهره الشر بالنسبة لك وقد يكون في طياته الخير، قال -تعالى-: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} وقد تُبتلى بما في ظاهره الخير، مال وأولاد ومناصب ووجاهات ودنيا، ولكن قد يكون فيه الاستدراج، وقد يكون فيه السقوط المُدَوّي والعياذ بالله -تعالى-، وفي كلا الحالين أنت مُمتحَن ومُختبَر ومُبتلَى، ولذلك قد يتطور الامتحان والاختبار والابتلاء ليصل إلى الأموال والأولاد، قال -تعالى-: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}. بل انظر إلى هذا المعنى الجميل، قد يصل الاختبار إلى حد قد يكون مؤلما، لكن وطّن نفسك على كل الاحتمالات، وبيّن الله -تبارك وتعالى- هذا باختصار ووضوح وجلاء {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا}، سبحان الله! هذا امتحان واختبار وابتلاء أتصبرون عليه؟ وماذا لو جزعتم وتسخّطتم واعترضتم وتململتم؟ لن تغيروا من الأمر شيئا، بل ستخسرون؛ ولذلك اصبروا في الامتحان لتنجوا وتصلوا إلى بر الأمان، وهكذا القرآن تناول الموضوع بهذه الطريقة الرائعة الجميلة البديعة.فتنة الأنبياء
والمتأمل لحال الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- يجد أنهم تعرضوا لفتن عديدة بأشكالها وأنواعها، قال الله -تعالى عن إبراهيم عليه السلام-: {وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (الصافات: 104-107)، وقال -سبحانه- لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} (الفرقان:20). أما داوود -عليه السلام- فقد أخبرنا القرآن الكريم بالفتنة التي ابتلي بها داود ليعلمه الله-تعالى- أصول الحكم بين الناس قبل أن يوليه خلافة الأرض فقال -سبحانه-: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}. وأما سليمان -عليه السلام-: فكان أشد ابتلاء بالمُلك من أبيه؛ فلم يكن مفهوم الملك في الدنيا سوى أنه فتنةٌ واختبارٌ من الله له، فهو مجرد سؤالٍ عملي وتجربةٌ ابتلائية، اجتازها سليمان ونجح فيها بالشكر لله، وليكن مثالاً للملك الناجح في ابتلائه وشاهداً يوم القيامة على أمثاله من الملوك والأغنياء، قال -تعالى-: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ}. أما أيوب -عليه السلام-: فقد قال الله -تعالى في شأنه-: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} {الأنبياء: 83-84}، وقال -سبحانه عن موسى عليه السلام-: {وفتناك فتونا} أي ابتليناك ابتلاءً عظيمًا. أما يوسف -عليه السلام-: فقد تميز بالابتلاء بالجمال الأخاذ الذي عَرضه لفتنة الشهوة من امرأة العزيز قال -تعالى-: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف: 23-24).اهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم- بالفتن
لخوف النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته، وعمله لنجاتها، اهتم بطرح قضية الفتن بطريقة عجيبة جدا، تشعرك بأهمية هذه القضية، فعن عمرو بن أخطب عند الإمام مسلم يقول - رضي الله عنه -: «صلَّى بنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم- الصُّبحَ، ثمَّ صعِد المِنبَرَ فخطَب حتَّى حضَرتِ الظُّهرَ، ثمَّ نزَل فصلَّى ثمَّ صعِد المِنبَرَ فخطَبَنا حتَّى حضَرتِ العصرُ، ثمَّ نزَل فصلَّى ثمَّ صعِد المِنبَرَ فخطَبَنا حتَّى غابتِ الشَّمسُ، فحدَّثنا بما كان وبما هو كائنٌ فأعلَمُنا أحفَظُنا»، موعظة من الفجر إلى المغرب! الموضوع فعلا جد خطير، كأنها رسالة للأمة، ما كان هذا الحديث في هذه المدة الطويلة؟ والصحابه كأن على رؤوسهم الطير ولم ينصرفوا من المكان، قيل: كان يتحدث عن الفتن، ما كان وما قد يكون منها.تعدد أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم- عن الفتنة
ولم يفعل النبي - صلى الله عليه وسلم- ذلك مرة واحدة، بل روى لنا عمرو بن العاص - رضي الله عنه - فقال: بينا نحن مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم- في سفرٍ؛ إذ نَزَلْنَا منزلًا، فمِنَّا مَن يَضْرِبُ خباءَه، ومِنَّا مَن يَنْتَضَلُ، ومِنَّا من هو في جَشْرَتِه؛ إذ نادى منادي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم-: الصلاةُ جامعةٌ، فاجتَمَعْنا فقام النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فخَطَبَنَا فقال: «إنه لم يَكُنْ نبيٌّ قبلي إلا كان حقًا عليه، أن يدلَ أمتَه على ما يَعْلَمَه خيرًا لهم، ويُنْذِرَهم ما يَعْلَمُه شرًا لهم، وإن أمتَكم هذه جُعِلَتْ عافيتُها في أولِها، وإن آخرَها سيُصِيبُهم بلاءٌ وأمورٌ يُنْكِرُونها، تَجِيءُ فتنٌ فيُدَقِّقُ بعضُها لبعضٍ، فتَجِيءُ الفتنةُ فيقولُ المؤمنُ: هذه مُهْلِكَتي، ثم تَنْكَشِفُ، ثم تجيءُ فيقولُ: هذه مُهْلِكَتي، ثم تَنْكَشِفُ، فمَن أحبَّ منكم أن يُزَحْزَحَ عن النارِ، ويُدْخَلَ الجنةَ فلتُدْرِكْه موتَتُه، وهو مؤمنٌ باللهِ واليومِ الآخرِ، وليَأْتِ إلى الناسِ ما يُحِبُّ أن يُؤْتَى إليه، ومَن بايع إمامًا فأعطاه صفقةَ يدِه، وثمرةَ قلبِه، فلْيُطِعْه ما استطاع، فإن جاء أحدٌ يُنازِعُه فاضربوا رقبةَ الآخرِ». وتعددت أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم- عن الفتنة نذكر منها حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «تكونُ بينَ يديِ السَّاعةِ فِتَنٌ كقطَعِ اللَّيلِ المظلِمِ، يصبِحُ الرَّجلُ فيها مؤمِنًا ويمسي كافِرًا، ويمسي مؤمِنًا ويصبِحُ كافِرًا، يبيعُ أقوامٌ دينَهم بعرَضٍ منَ الدُّنيا»، تأمل المعنى، في أول النهار مؤمن وفي آخره كفر والعياذ بالله، مترنح من شدة الفتنة ولقلة العلم، وعدم التأهيل المبكر لاستقبالها ومعرفتها جيدًا، والأخذ بما يؤدي إلى النجاة منها.طرح عجيب ومتنوع
طرح عجيب ومتنوع كله يدل على اهتمامه - صلى الله عليه وسلم- بتوريثه هذا العلم الخطير الذي به النجاة بإذن الله -تبارك وتعالى- في الدنيا والآخرة، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم-: «يَتَقارَبُ الزَّمانُ، ويَنْقُصُ العَمَلُ، ويُلْقَى الشُّحُّ، وتَظْهَرُ الفِتَنُ، ويَكْثُرُ الهَرْجُ. قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، أيُّمَ هُوَ؟ قالَ: القَتْلُ القَتْلُ»، إنه حديث مخيف، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم-: «ستكونُ فتَنٌ، القاعدُ فيها خيرٌ من القائمِ، والقائمُ فيها خيرٌ من الماشي، والماشي خيرٌ من السَّاعي»، إنها فتن من دخلها بغير علم ولا تأهيل مبكر أخذته والعياذ بالله -تعالى-، ونختم بهذا الحديث في الفتن لندخل إلى صلب الموضوع، يقول - صلى الله عليه وسلم-: «تُعرضُ الفتنُ على القلوبِ كالحصيرِ عودًا عودًا، فأيُّ قلبٍ أُشربَها نكتَتْ فيه نكتةٌ سوداءُ فيصيرُ أسودَ مربادًّا كالكوزِ مُجَخِّيًا، لا يعرفُ معروفًا ولا ينكرُ إلا ما أُشرِبَ من هَواه».بيان طبيعة الطريق
هذه الأحاديث وغيرها الكثير ماذا نفهم منها؟ حرص النبي -عليه الصلاة والسلام- على بيان طبيعة الطريق، وأنه يلزم الأمة أن تؤهل نفسها للفتن، وأن تأخذ بأسباب النجاة منها، لأنها من الخطورة بمكان، ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم- حريصا على بيان طبيعة الفتن مرة من الفجر إلى المغرب، ومرة في غزوة أو في السفر حتى مع الإرهاق والشدة والكرب، والناس يميلون إلى الراحة، لكن يجمعهم -صلى لله عليه وسلم- لبيان أهمية الموضوع، إنها قضية تحتاج إلى تذكّر وتدبّر.الصحابة -رضوان الله عليهم- والفتن
كان للصحابة -رضوان الله عليهم- اهتمام خاص بقضية الفتن، وكانوا دائمي السؤال عنها، فعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: «بيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ عُمَرَ، إذْ قالَ: أيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الفِتْنَةِ؟ قالَ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ في أهْلِهِ ومَالِهِ ووَلَدِهِ وجَارِهِ، تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ والصَّدَقَةُ، والأمْرُ بالمَعروفِ والنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ قالَ: ليسَ عن هذا أسْأَلُكَ، ولَكِنِ الَّتي تَمُوجُ كَمَوْجِ البَحْرِ، قالَ: ليسَ عَلَيْكَ منها بَأْسٌ يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إنَّ بيْنَكَ وبيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا، قالَ عُمَرُ: أيُكْسَرُ البَابُ أمْ يُفْتَحُ؟ قالَ: بَلْ يُكْسَرُ، قالَ عُمَرُ: إذًا لا يُغْلَقَ أبَدًا، قُلتُ: أجَلْ. قُلْنَا لِحُذَيْفَةَ: أكانَ عُمَرُ يَعْلَمُ البَابَ؟ قالَ: نَعَمْ، كما يَعْلَمُ أنَّ دُونَ غَدٍ لَيْلَةً، وذلكَ أنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا ليسَ بالأغَالِيطِ. فَهِبْنَا أنْ نَسْأَلَهُ: مَنِ البَابُ؟ فأمَرْنَا مَسْرُوقًا فَسَأَلَهُ، فَقالَ: مَنِ البَابُ؟ قالَ: عُمَرُ». الشاهد من هذا الأثر أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يعلم أحاديث الفتن، وكذا حذيفة - رضي الله عنه - ومن كان حاضرًا من الصحابة -رضي الله عنهم-، لكن هذا قطاع عريض من التابعين يجب أن يورثوا هذا العلم، فكان هذا الطرح ما بين عمر وحذيفة ليورث هذا العلم إلى التابعين، ولذلك نقل إلينا هذا المشهد. مشهد آخر تشعر فيه أن هذه القضية كانت حاضرة عند الصحابة والتابعين، الزبير بن عباده - رضي الله عنه - يحكي فيقول: عن الزُّبيْرِ بنِ عديِّ قَالَ: أَتَيْنَا أَنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - فشَكوْنا إليهِ مَا نلْقى مِنَ الْحَجَّاجِ. فَقَالَ: «اصْبِروا فإِنه لا يأْتي زمانٌ إلاَّ والَّذي بعْده شَرٌ مِنهُ حتَّى تلقَوا ربَّكُمْ» سمعتُه منْ نبيِّكُمْ - صلى الله عليه وسلم-. يا سبحان الله! هؤلاء رجال أرادوا أن يورثوا هذا المفهوم إلى التابعين، ويدعوهم للصبر، على الجملة؛ فالغربة تشتد مع مرور الأيام هذا متفق عليه عند السلف -رضي الله عنهم وأرضاهم-، ولذلك حرص السلف على بيان أسباب النجاة من الفتن، وهذا هو المقصد الذي نتحدث فيه الآن.واقعنا اليوم
والمتأمل في واقعنا اليوم يرى حجم الفتن، ويرى في المقابل زهادة في طلب العلم، مناهج كثيرة منحرفة موجودة على الساحة، ناهيك عمن يسقطون أحاديث الفتن والملاحم على مثل هذا الواقع المختلف تمامًا افتئات وافتراء على الله -عزوجل- وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم- وعلى أهل العلم من السلف الصالح، لكن الذي أريد أن أقول: نحن فعلا -لضعف الإيمان، ولقلة الأعوان، ولشدة الغربة، ولكثرة الفتن-، نحتاج أن نحصّن أنفسنا، لقد تعلمنا من هذا المنهج المبارك أن التأهيل المبكر، والإعداد الجيد لأنفسنا، يحول بيننا وبين الفتن المتتابعة والمتلاحقة كما قلنا -عوداً عودا- تموج كموج البحر. إننا في مرحله انتقالية حرجة جدا، لا نستطيع تجاوزها إلا بالعلم الشرعي والتأهيل الجيد حتى نخرج من الفتن أقوى مما دخلنا فيها، ونتمكن -بعون الله وتوفيقه- من التزود منها، فالبرغم من أن الفتن لها آثارها السلبية، لكن المؤمن -والمؤمن فقط- هو الذي يحولها إلى محضن تربوي يسمو به ويرتقي معه.
لاتوجد تعليقات