
منهجية ثوثيق الحجج الوقفية – في عهد الصحابة -رضوان الله عليهم-
- ممّا شاع في العهود الإسلامية أنّ الواقفين كانوا يتعمدون الإعلان عن أوقافهم حتى يعرف الناس على اختلاف طبقاتهم بالوقف وشروطه
- حماية الأصول الوقفية واجب شرعي طبقًا للقاعدة الفقهية ما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب
لا شك أنّ الوقف من السّنن النبويّة العظيمة، والخصائص الإسلاميّة الشريفة، أقبل عليه الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم-، استجابة لنداء الله -تعالى- ونداء رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويعدّ الوقف الإسلامي من أهم ميادين البر، وأغزر روافد الخير، وأفسحها مجالًا، وأعظمها أجرًا، وأبقاها عملًا، وأكثرها تأثيرًا؛ فقد كان للأمة خير معين، لسدّ حاجاتها، ومساندة جهادها، ودعم علمائها ودعاتها، وحفظ هويتها وحيويتها، واستمرار عطائها الحضاري والتنموي.
ومن سيرةِ الآل والأصحاب -رضوان الله عليهم- في البذل للوقَفْ: اختيار أجود مالٍ وأنفسِه وأحبّه إليهم؛ فكانوا إذا أحبُّوا شيئاً جعلوه لله -سبحانه وتعالى-، وحرصوا على ديمومتِه واستمرار نفعه برعايته في حياتهم، والعمل على حُسْنِ إدارتِه من بعدهم، باختيار النُّظَّار لأوقافهم، ومنهم: عمر وعلي -رضي الله عنهم-، فقد كانا ناظرَيْن لوقْفَيْهِما، أما عمر - رضي الله عنه - فولّى ابنتَه النظارة على وقفه حين تولّى الخلافة، وأما عليٌّ فقد تولّى وَقْفَه حتى وفاته، وقد سبق ذكر ذلك عنهما -رضي الله عنهما-.زيادة نفع الوقف
وكذلك حرصهم على زيادة نفع الوقف بالوصول إلى أكبر عددٍ ممكنٍ من المستفيدين، كوقف النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وتعدد مصارفه (الموقوف عليهم)، ووقف عثمان - رضي الله عنه - لبئر رومة، ووقف علي - رضي الله عنه - لأرض ينبع، ووقف بني النجار حائطهم (بستانهم) لإقامة مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها - كما مرّ-. وحرصوا على حفظ أوقافهم من التعدي، سواء أكان تعدّيًا على العين الموقوفة، أم تعديًا على منفعتها؛ لأن حفظ الوقف وحمايته تدور حول الآتي: حفظ الموقوف، وحفظ شروط الواقف، وحفظ مقاصد تشريع الوقف، وحفظ المنافع للموقوف عليهم؛ لأنّ الأصل في الوقف عدم جواز بيعه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «تصدَّقْ بأصلِه لا يباع ولا يوهب ولا يورث»، ليدوم أصله ويعم نفعه.واجب شرعي
فحماية الأصول الوقفية واجب شرعي، طبقًا للقاعدة الفقهية: «ما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب»؛ فما كان وسيلة إلى واجب، ولا يمكن إيقاع هذا الواجب إلا بهذه الوسيلة، فحكم هذه الوسيلة الوجوب، وأكَّد شيخ الإسلام ابن تيمية ضرورة التولية على الوقف، بقوله: «وكذلك الأموالُ الموقوفُة على ولاة الأمر من الإمام والحاكم ونحوِه إجراؤُها على الشروط الصحيحة الموافقة لكتاب الله، وإقامة العمّال على ما ليس عليه عاملٌ من جهة النّاظر، والعامل في عُرْفِ الشّرع يدخل فيه الذي يسمّى ناظرًا ويدخل فيه غيرُ النّاظر، لقبض المال ممّن هو عليه وصرفُه ودفعُه إلى من هو له، لقوله -تعالى-: {إنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى َأَهْلِهَا}، ونَصْبُ المُسْتَوْفِي الجامَع للعمّال المتفرّقين بحسب الحاجة والمصلحة، وقد يكون واجبًا إذا لم تتمّ مصلحة قبضِ المال وصَرْفِه إلا به، فإنّ ما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب».أوّلاً: التوثيقُ بالإشهاد
كان الإشهادُ من الممارساتِ الشائعةِ في فعل الآل والأصحاب -رضوان الله عليهم-، فوقفُ عمر - رضي الله عنه - لأرض خيبر ثبتَ بدايةً بالإشهاد في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومع ذلك كتب عمر - رضي الله عنه - وثيقته، وأشهد عليها في وصيته التي كتبها في خلافته، ودعا نفراً من المهاجرين والأنصار، فأحضرهم لذلك، وأشهدهم عليه، فانتشر خبرها. وعثمان - رضي الله عنه - أشهد النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة على وقفه عندما أعلن وقفه لبئر رومة سقايةً للمسلمين، وسمع ذلك النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وكلُّ من حضر من الصحابة، وذلك (إثبات بالشهادة)، وقد استند على هذا الثبوت السّابق في إبطالِه قول أهل الباطلِ الذين خرجوا عليه، عندما أعادَه على مسامعِ الجمعِ العظيمِ وهو محصورٌ في داره ظلمًا - رضي الله عنه -، فلم يستطيعوا أن يَفُوهوا بحرفٍ واحدٍ من الجحدِ والإنكار، لقوّة ثبوت تلك الفضائل. وأمّا سعدُ بن عبادة، فقد جاء في حديثِ وَقْفِه حائطَه المِخْراف، أنّه قال للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «فإنّي أُشهدك أنّ حائطي المخراف صدقةٌ عليها»، أي على أمّه. وبوَّب البخاري -رحمه الله على هذا الحديث بقوله-: «باب: الإشهادُ في الوقف والصدقة»، وقد ألحق الوقف بالصدقة، وذكر ابن حجر في إشهاد سعد أنّ قولَه: «أشهدك» يحتمل إرادة الإشهاد المعتبر، ويحتمل أن يكون معناه الإعلام، وقال الحافظ: «واستدلّ المهلّب للإشهاد في الوقف بقوله -تعالى-: {وَأَشْهِدُوا إذا تَبَايَعْتُمْ}، قال: فإذا أُمر بالإشهاد في البيع وله عِوَضٌ، فلَأَنْ يُشرع في الوقف الذي لا عِوَضَ له أَوْلَى»، وملحظ الإمام البخاريّ -رحمه الله في هذا التبويب- شرحه الإمام ابن المنيّر، فقال: «كأنّ البخاريَّ أرادَ دَفْعَ التّوهُّمِ عمّن يظنّ أنّ الوقف من أعمال البِرِّ فيُنْدَبُ إخفاؤُه! فبيّن أنّه يُشرع إظهارُه؛ لأنّه بِصَدَدِ أنْ يُنازَعَ فيه، ولا سيما من الوَرَثة».ثانياً: حكم الإشهادِ عند الآل والأصحاب
من خلال النّظر في الآثار والنّصوص التاريخيّة، فإنّنا لا نجد أنّ الصحابةَ الذين وقَفُوا قد صرَّحُوا بحكم الإشهادِ على الوقف خاصّة، وإنّما رُصِدَ ذلك وثبت من أفعالِهم، وعلى هذا فإنّ المأثور عنهم يندرجُ في عموم المشروعيّة الثابتةِ بنصوص القرآن والسُّنَّةِ؛ حيثُ إنّ الأصلَ أنّ الوقْفَ معدودٌ من عقود التبرُّعات، وإذا تمّ الإشهادُ عليه، فالأصلُ أنّ أحكامَ هذا الإشهادِ من حيث صفتُه وهيئتُه وأحكامُ الشهودِ القائمين به، هي ذاتُها أحكامُ الشّهودِ في باقي العقود.ثالثاً: حكم الإشهادِ على الوقف
دلّ على مشروعية التوثيق بالشهادة: الكتاب، والسنة، والإجماع، وفعل الصحابة -رضي الله عنهم-، وقد حرص صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إثبات الأوقاف بإشهارها والإشهاد عليها، جاء في «الموسوعة الفقهية»: «إشهاد الشهود على التصرفات وسيلة لتوثيقها، واحتياط للمتعاملين عند التجاحد والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم؛ لأن الحاجة داعية إلى الشهادة لحصول التجاحد بين الناس، فوجب الرجوع إليها». وفي حكم الإشهاد، قال ابن هبيرة: «واتفقوا على أنّ الإشهاد مستحب، وليس بواجب»، وهذا يعمّ الإشهاد على العقود وغيرها، سواء كتبت أم لم تكتب. وفي الفقه الإسلاميّ، لم يُشترط الإشهادُ على الوقف لصحّته، وإنّما كما تقدّم في التمهيدِ عند الحديث عن الصيغةِ، فإنّ الوقف ينعقدُ شرعًا بمجرّد صدور لفظٍ أو فعلٍ قرّر الفقهاءُ أنّه جُعل أَمَارةً شرعيّةً على انعقادِه، هذا من حيث انعقادُه شرعًا ولُزومُه لذمّة الواقفِ، أمّا عند الاحتياجِ إلى الإلزامِ القضائيّ به، كما لو رجعَ الواقفُ عن الوقف بعد عَقْدِه ورفض تسليمَه لمن يتولّاه ويصرفُ غلَّتَه إلى أصحاب الحقّ، فإنّ القاضي لا يقضي إلّا بالبيّنةِ المعتبرةِ التي تُبِينُ الحقّ. قال ابن رشد: «فمن شرطِ تمامِه القبضُ والحيازةُ، كالهبة والصدقة، فإنْ لم يُقبض عنه ولا خرج عن يده حتى مات فهو باطلٌ، يكون موروثًا عنه، والعقدُ يصحّ ويلزم، وإنْ لم يقارنه القبض، وليس للمحبِّس الرجوع فيه، ويلزمه إقباضُه للمحبَّس عليه، فإنْ امتنع من ذلك، جُبر عليه». ومعلومٌ بالبداهةِ أنّه لا سبيلَ إلى جَبْرِهِ قضاءً، إلّا بإقامةِ بيِّنَةٍ تُخَوِّلُ القاضي بذلك، وهذه البيّنة إمّا أن تكونَ إقراره، أو شهودًا على إقراره أو على خطّه، على وَفْق ما هو مقرَّرٌ عند الفقهاء في أبواب الدّعاوى والبيّنات.بنود قانونية لإثبات الوقف
إلا أنّه في العهود المتأخّرة أدرجت بعض الدول الإسلامية بنودًا قانونية لإثبات الوقف، كاشتراط صدور إشهاد رسمي ممن يملكه أمام الجهة المختصة بسماعه، وبناءً على ذلك، فقد عُدَّ الإشهاد شرطاً لصحة الوقف، واستُثني وقف المسجد، فهو لا يزال على حكمه الفقهي الذي اتفق فيه الفقهاء على صحة الوقف على المسجد وتوابعه، سواء تم الإشهاد أم لا. وقبل قانون الأوقاف المصريّ المُشار إليه بوقتٍ غيرِ بعيد، كانت أصول التقعيدات القانونيّة مستمرّةً على عدم الإلزامِ بالإشهاد، ففي المادّة (152) من «ترتيب الصُّنوف»: «ينعقدُ الوقف بصدورِ لفظٍ من الألفاظ الخاصّة به الصادرةٍ من أهلِه، مُضافًا إلى محلٍّ قابلٍ لحكمِه، وهو المالُ المُتقَوَّمُ». اهـ وفي بيان الشهادة التي تقبل في الوقف، قال الخصاف: «إن شهد الشهود أنّ فلاناً أقر عندنا أنه وقف هذه الأرض وقفاً صحيحاً وحددها، وأنه كان مالكها في وقت ما وقفها، قضينا بأنها وقف من قبل الواقف وأخرجناها من يدَيِ الذي هي في يديه». وفي شأن الوقوف التي تقادم عهدها، قال: «ما كان في أيدي القضاة منها، وما كان لها رسوم في دواوين القضاة، أُجريت على الرسوم الموجودة في دواوينهم استحساناً إذا تنازع أهلها فيها، وما لم يكن لها رسوم في دواوينهم يُعمل عليها، فالقياس فيها إذا تنازع القوم فيها أن يُحملوا على التثبيت، فمن ثبّت في ذلك شيئًا حُكم له به». وممّا شاع في العهود الإسلامية أنّ الواقفين كانوا يتعمدون الإعلان عن أوقافهم، حتى يعرف الناس على اختلاف طبقاتهم بالوقف وشروطه، ومن الطرائق التي نقلتها كتب التاريخ، زفُّ كتاب الوقف بالأناشيد والأشعار في شوارع القاهرة! فضلاً عن الحفلات التي تقام -عادة- عند افتتاح المنشآت الموقوفة، مثل المدرسة وغيرها. فالوقف بعد لزومه والحكم به مآله إلى الشيوع والاشتهار أصلاً، ولن يبقى مكتوماً كصلاة العبد بالليل أو صدقته على الفقير في خلوةٍ؛ فإنّ الصلاة لله وحده، والصدقة على الفقير لا يضرّ صاحبها أنْ يجحدها الفقير بعد ذلك! أمّا الوقف ففي تعريضه لإمكان الجحد إضرارٌ به وبكلّ منتفعٍ به في شأن الدّنيا أو الآخرة، فإشاعته وإذاعة خبره أصلح من كتمانه، بل الإشهار من وسائل حماية الوقف المباشرة.
لاتوجد تعليقات