رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: إبراهيم المغازي 7 ديسمبر، 2020 0 تعليق

مصادر التلقي ومنهج الاستدلال عند أهل السنة والجماعة


                                                                     

قال الله -تعالى-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة: ١٤٣)، قال ابن جرير -رحمه الله-: «إنما وصفهم بأنهم وسَط»، لتوسطهم في الدين، فلا هم أهلُ غُلوٍّ فيه، كغلوَّ النصارى الذين غلوا بالترهب، وقولهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه، كتقصير اليهود الذين بدَّلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به.

وأصل الوسطية من مادة (وَسَط) ومعناها: العدل والنصف، وأعدل الشيء أوسطه ووسطه، وأوسط الشيء أفضله وخياره، وتأتي في استعمال الشرع على معانٍ، منها: العدالة والخيرية كما في حديث أبي سعيد الخدري، وفيه تفسيره - صلى الله عليه وسلم - للآية بقوله: «فذلك قوله -جل ذكره-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، والوسط العدل».

المسلمون وسط وعدل

     فالمسلمون هداهم الله بكتابه ورسوله لما اختلف فيه من الحق قبلهم، وجعلهم وسطًا عدلًا خيارًا؛ فهم وسط في توحيد الله وأسمائه وصفاته، وفي الإيمان برسله وكتبه، وشرائع دينه من الأمر والنهي والحلال والحرام؛ فإن الإسلام وسط في الملل بين الأطراف المتجاذبة، والسنة في الإسلام كالإسلام في الملل، وقد تمثلت هذه الوسطية بصورتها الأولى النقية في جيل الصحابة -رضي الله عنهم-، الذين أثنى الله -جل ذكره- عليهم بقوله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة: ١٠٠).

آثار الوسطية

     وامتدت آثار الوسطية وبلغت أصداؤها إلى مَن تبعهم بإحسان من القرون المفضلة مُعْربًة عن منهج السلف الوسطي في الإيمان والعبادة، والسلوك والمعاملة؛ فلقد تمسكوا بالمنهج القويم الذي أرسى قواعده وشيد بنيانه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأطبقوا عليه، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه  قال: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - خَطًّا، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ»، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: «هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ»، ثُمَّ قَرَأَ: {وَأِنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ، فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (الأنعام:153)، وفي رواية: «هَذَا صِرَاطُ اللهِ مُسْتَقِيمًا»، قال ابن تيمية -رحمه الله-: وهذا الصراط المستقيم هو دين الإسلام المحض، وهو ما في كتاب الله -تعالى-، وهو السنة والجماعة؛ فإن السنة المحضة هي دين الإسلام المحض، وهذه الفرقة الناجية أهل السنة، وهم وسط في النحل، كما أن ملة الإسلام وسط في الملل».

وسط بين الفرق

     إن أهل السنة وسط بين الفرق؛ إذ تمسكوا بالأمر العتيق، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه : «اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم»، وقال أيضًا: «مَن كان مستنًا فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا خير هذه الأمة، وأبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ونقل دينه فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم؛ فهم كانوا على الهدى المستقيم، وقال أبو بكر بن عياش: «السنة في الإسلام أعز من الإسلام في سائر الأديان».

وسطية أهل السنة

     وتتضح وسطية أهل السنة بين سائر الفرق بأنهم وسط في باب صفات الله -سبحانه وتعالى-: بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة، وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية وغيرهم، وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم، وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية، وفي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الرافضة والخوارج.

وحدة كلمتهم

     وقد كان مِن آثار وسطية أهل السنة والجماعة بين الفرق، وحدة كلمتهم واتفاقهم على أصول الدين، حتى صار الاجتماع والائتلاف وصفًا ملازمًا لهم؛ ولذا لم ينزعوا نحو الغلو أو الجفاء، و«مما يدل على أن أهل الحديث هم على الحق، أنك لو طالعت كتبهم المصنفة من أولها إلى آخرها، قديمها وحديثها مع اختلاف بلدانهم وزمانهم، وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كل واحد منهم قطرًا من الأقطار، وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة، ونمط واحد يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها، ولا يميلون فيها؛ فقولهم في ذلك واحد ونقلهم واحد، لا ترى بينهم اختلافًا، ولا تفرقًا في شيء ما وإن قل، بل لو جمعت ما جرى على ألسنتهم، ونقلوه عن سلفهم، وجدته كأنه جاء من قلب واحد، وجرى على لسانٍ واحدٍ».

     ونشأ الافتراق في غيرهم من أهل البدع والأهواء بمشاقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والحيد عن سبيل المؤمنين، كما قال -تعالى-: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (النساء:١١٥)، قال ابن كثير -رحمه الله-: قد تكون المخالفة لنص الشارع، وقد تكون لما أجمعت عليه الأمة المحمدية، فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقًا؛ فإنه قد ضُمنتْ لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ.

الثبات والاستقرار

- وبالجملة: فالثبات والاستقرار في أهل الحديث والسنة أضعاف أضعاف ما عند أهل الكلام والفلسفة؛ بل المتفلسف أعظم اضطرابًا وحيرة في أمره، وأيضًا تجد أهل الفلسفة والكلام أكثر الناس افتراقًا واختلافًا، مع دعوى كل منهم أن الذي يقوله حق مقطوع به قام عليه البرهان، وأهل السنة والحديث أعظم الناس اتفاقًا وائتلافًا، وكل مَن كان مِن الطوائف إليهم أقرب كان إلى الاتفاق والائتلاف أقرب.

وضوح مصادر التلقي

- وعند التحقيق: نجد أن منشأ اتفاقهم كان من وضوح مصادر التلقي ومنهجية الفهم والاستدلال لديهم، وكان السبب في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة، وطريق النقل؛ فأورثهم الاتفاق والائتلاف، وأهل البدعة أخذوا الدين من المعقولات والآراء؛ فأورثهم الافتراق والاختلاف؛ فإن النقل والرواية من الثقات والمتقنين قلما يختلف، وإن اختلف في لفظ أو كلمة فذلك اختلاف لا يضر الدين، ولا يقدح فيه، وأما دلائل العقل فقلما تتفق، بل عقل كل واحد يُري صاحبه غير ما يرى الآخر، وهذا بيِّن والحمد لله.

أسعد طوائف الأمة

     ولذا فهم أسعد طوائف الأمة بالحق والائتلاف والاجتماع عليه، ولست تجد اتفاقًا وائتلافًا إلا بسبب اتباع آثار الأنبياء من القرآن والحديث وما يتبع ذلك، ولا تجد افتراقًا واختلافًا إلا عند مَن ترك ذلك وقدَّم غيره عليه، قال -تعالى-: {‏‏وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ. وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ‏}‏‏(‏هود‏: ‏118 -119‏)؛ فأخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون، وأهل الرحمة هم أتباع الأنبياء قولًا وفعلًا، وهم أهل القرآن والحديث من هذه الأمة؛ فمن خالفهم في شيء فاته من الرحمة بقدر ذلك.

صفة ملازمة لسائر الفرق

- ومن جهة أخرى: كانت الفرقة والاختلاف صفة ملازمة لسائر الفرق المخالفة للسنة والجماعة؛ لتنازعهم في مصادر التلقي ومنهج الاستدلال، وإذا نظرت إلى أهل الأهواء والبدع، رأيتهم متفرقين مختلفين أو شيعًا وأحزابًا، لا تكاد تجد اثنين منهم على طريقة واحدة في الاعتقاد، يبدع بعضهم بعضًا، بل يرتقون إلى التكفير، يكفِّر الابن أباه والرجل أخاه، والجار جاره، تراهم أبدًا في تنازع وتباغض واختلاف، تنقضي أعمارهم ولما تتفق كلماتهم {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} (الحشر: ١٤).

العناية بمصادر الشريعة

- ومما سبق: تتجلى ضرورة العناية بمصادر علوم الشريعة المتفق عليها، وكذا الأصول الجامعة والقواعد الكلية التي ترسم منهج الاستدلال وقواعد الفهم السليم، وترجع أهمية تناول هذا الموضوع بالدراسة إلى أن هذه المصادر والأصول والقواعد ترسِّخ دعائم منهاج النبوة؛ فيُبْصر صاحبها الحق اعتقادًا وقولًا وعملًا، وتدفع عنه الحيرة والشك والتردد وسط طرائق المخالفين، وطالب الحق إذا رأى ما في هذه الأقوال من الفساد والتناقض والاضطراب، ومناقضة بعضها لبعض ومعارضة بعضها لبعض بقي في الحيرة؛ فتارة يتحيز إلى فرقة منها، له ما لها وعليه ما عليها، وتارة يتردد بين هذه الفرق تميميًّا مرة وقيسيًّا أخرى، وتارة يُلقي الحرب بينهما ويقف في النَّظَّارة؛ وسبب ذلك: خفاء الطريقة المثلى والمذهب الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الأديان، وعليه سلف الأمة وأئمتها والفقهاء المعتبرون.

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك