
لماذا نرفض العلمانية؟!
نشأت العلمانية في أوروبا في مقابَلة الدولة الدينية التي يحكمها البابوات والأباطرة، ويوجبون على الناس التشريعات التي اخترعوها بلا مستندٍ مِن شريعة الله، وهذا الحال كان قديمًا في الديانة النصرانية منذ ما قبل البعثة النبوية الشريفة، كما دلَّ على ذلك حديث عدي بن حاتم -رضي الله عنه- الذي رواه أحمد والترمذي عنه أنه لما بلغته دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَرَّ إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية، فأُسِرَت أُخته وجماعة مِن قومه، ثم مَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أخته وأعطاها؛ فرجعت إلى أخيها فرَغَّبَتْه في الإسلام وفي القدوم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فقَدِم عدي إلى المدينة -وكان رئيسًا في قومه طيئ، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم؛ فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي عنق عدي صليب مِن فضة وهو يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} (التوبة:31)، قَالَ: قُلْتَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، قَالَ: «أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللهُ فَتُحَرِّمُونَهُ؟ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَتَسْتَحِلُّونَهُ؟»، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: «فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ». (رواه الترمذي والطبراني، وصححه الألباني).
وقد وقع الأحبار والرهبان والحُكَّام في تجاوزاتٍ فظيعةٍ استعبدوا بها الناس وأذَلُّوهُم؛ فلما قامت الثورة الفرنسية، ورفض الناس حكم القساوسة والأباطرة معًا؛ ظهرت فكرة العلمانية بفصل الدين عن الدولة، واعتبار أن الدولة لا دين لها؛ ولا سيما وأن أنظمة حياة المجتمع والدولة ليست مذكورة في الإنجيل؛ وإنما كانت هذه الأنظمة مختَرَعة مِن رجال الدين المُحَرَّف؛ فسهل على الناس خلع ربقة الالتزام بالدين بالكلية، وكان غاية ما عندهم فيه أن يقبلوه بوصفه حرية شخصية، وعلاقة خاصة بين الإنسان وربه -أيًّا ما كان ذلك الرب-؛ فالأديان عندهم متساوية مِن هذه الجهة.
مَرَدّ التشريع إلى الشعب
وكان لابد للمجتمع مِن نظام؛ فجُعل مَرَدّ التشريع إلى الشعب، وجعل حق التشريع لعامة الناس عن طريق نوابهم دون رجال الدين، وصارت الدولة عندهم لا تُعنَى بالتزام الناس بدين مُعَيَّن، ولا شريعة معينة إلا ما وضعوه في المجالس التشريعية؛ فظهر مصطلح الدولة اللادينية في مقابل الدولة الدينية بمفهومهم عن الدين أنه مِن وضع القساوسة والأباطرة.
انتقال الفكرة إلى أوربا
ثم انتقلت الفكرة بالتدريج إلى باقي الشعوب الأوروبية، ثم في العصر الحديث حتى بعد استقلال كثيرٍ مِن الدول مِن الاحتلال الغربي، وحرصت الدولة الغربية على فرض ثقافتها وقِيَمِها دون الثقافة الأصلية للشعوب وقيمها، عن طريق التعليم والإعلام والاقتصاد والسياسة، بل والقوة العسكرية، وكان مِن ضمن الدول المحتلة أكثر بلاد العرب والمسلمين، وانتقلت عدوى فصل الدين عن الدولة وتخلي الدولة عن التزامها ومسؤوليتها عن دين الإسلام في المجتمع -بل في أصل المنهج الإسلامي- في العالم، وكذا التخلي عن مرجعية الشريعة الإسلامية لكل التشريعات دون غيرها.
الدليل مِن الكتاب والسُّنة
وتَنَاسَت النخبة المُتَّبِعة للغرب أن دينَ الاسلام ليس مِن وضع رجال الدين ولا غيرهم، بل الجميع ملزَم بالدليل مِن الكتاب والسُّنة والإجماع والقياس، وغيره مِن مصادر الاستدلال؛ فلا يستطيع أحد أن يخترع حكمًا ينشئه ويلزم به الناس مِن غير دليل، ولا يستطيع أحد أن يبدِّل شيئًا مِن الأحكام الثابتة مهما بلغت كثرة مَن يقول بالتبديل أو قُوَّته؛ فالكل محكوم بشرع الله، فلا معنى لنقل اللادينية إلى مجتمعات ودول المسلمين.
وجوب لزوم الشريعة
ونصوص القرآن قاطعة وبالإجماع في لزوم الشريعة (التي تشمل العقيدة والعمل والسلوك في الإيمان والإسلام والإحسان)، وأن الخروج عنها واعتقاد صحة مخالفتها، وحق الخروج عنها كفر وخروج مِن المِلَّة، قال الله -تعالى-: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (المائدة:44)، وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة:45)، وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (المائدة:47)، وقال: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة:50)، وقال -تعالى- محذرًا المؤمنين مِن طاعة المشركين في تبديل حكمٍ واحدٍ فقط، هو حكم تحريمه الميتة: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (الأنعام:121)، وقال -تعالى-: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى:21).
إنكار الله -تعالى- على المشركين
وقال -تعالى- منكرًا على المشركين تبديل حكم تحريم الأشهر الحرم الذي كان يفعله كبراؤهم بتأخير التحريم ونسئه إلى أشهر أخرى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (التوبة:37)، وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ. سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (المائدة:41-43).
وكانت هذه المسارَعة في الكفر مِن أجل تغيير حكم الرجم إلى الجلد والتحميم -لَمَّا كَثر الزنا فيهم-؛ فكيف بمَن ألغى عقوبة الزنا بالكلية، وعدَّها مسألة شخصية طالما وقعت بالتراضي فليست جريمة؟!
قال الله -تعالى-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا. فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا. أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا. وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا. فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء:60-65).
تخالِف صريح القرآن
فكيف لا نرفض العلمانية بشِدَّة وهي تخالِف صريح القرآن وصريح السُنَّة وإجماع العلماء -بل المسلمين- على لزوم تحكيم الشريعة اعتقادًا وعملًا في العبادة والمعاملات، وسلوكًا وخُلقًا وقِيَمًا، وأنظمة لحياة الفرد والمجتمع والدولة؟!
الهزيمة الحضارية
وكيف لا نرفضها؟ ونحن نرى أثر الهزيمة الحضارية في بعض الدول الذين يقولون: «دعونا مِن القرآن، وحكاية آيات القرآن؛ نحن في دولة مدنية لا تعرف إلا الدستور والقانون، ومَن يقول بوجود مرجعية دينية لها فهو خطأ خطأ خطأ»، ويصفق لهم الناس!.
فهل يسعنا في إيماننا وإسلامنا أن نقبل خطوات على هذا الطريق المظلم الذي نهايته هاوية سحيقة؟! {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} (الحج:31)، فمَصلحة إيماننا وإسلامنا فوق كل مصلحة في الوجود، ومَفسدة الكفر والشرك والنفاق وانعدام الإيمان فوق كل مفسدة.
لاتوجد تعليقات