
سَنَن الله في خلقه
من السنن الربانية العظيمة في الخلق: تقلبُهم من حال إلى حال، ونقلُهم من طور إلى طور، ونجد هذه السنة الربانية في الأحياء على الأرض جميعهم، وتجري على الأفراد والأمم والدول، بل وعلى النظريات والأفكار والصناعات والتطور، ونجدها في الزمان والأجواء والعمران.
فالإنسان خلق ولم يكن من قبل شيئا, ثم لما كان شيئا مذكورا بخلق الله -تعالى- له تقلب في أطوار عدة {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِين}(المؤمنون:12-14)، وفي تمامه بشرا سويا ينتقل في حياته من الطفولة إلى الشباب إلى الكهولة فالهرم {اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ العَلِيمُ القَدِيرُ}(الرُّوم:54)، حتى يفقد التمييز كما كان في طفولته بلا تمييز {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}(النحل:70).
لقد كان الله -تعالى- قادرا على أن يخلق البشر دون الحاجة إلى هذا التدرج؛ فلا يكونون في قوة بين ضعفين، ولا في قدرة بين عجزين، ولا في كمال بين نقصين، ولكن سنته -سبحانه- فيهم اقتضت هذا التدرج والانتقال من حال إلى حال، وله -سبحانه- الحكمة فيما قضى فينا، وكان خلق الحيوان والنبات، كخلق الإنسان في التدرج، والانتقال من ضعف إلى قوة، ومن قوة إلى ضعف وشيخوخة وفناء.
هذا في الجانب الجسمي للإنسان، وفي الجانب العقلي القلبي الفكري هو متقلب أيضا من حال إلى حال {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}(التِّين:6)، وهذا الاستثناء للمؤمنين؛ لأنهم قبلوا هدى الله -تعالى- كما قال -سبحانه-: {وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى}(مريم:76).
ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «يا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي على دِينِكَ» قال أنس رضي الله عنه: فقلت: يا رَسُولَ الله، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قال: نعم، إِنَّ الْقُلُوبَ بين إصبعين من أَصَابِعِ الله يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ» رواه الترمذي.
والأفراد والدول والأمم تتقلب أحوالها، وتنتقل من طور إلى طور، قوة وضعفا، وصحة ومرضا، وغنى وفقرا، وعزا وذلا، بأسباب كونية قدرية، وبأسباب شرعية مَرْضِيَّة {قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(آل عمران:26)، وما من أفراد إلا فرحوا وحزنوا، وضحكوا وبكوا، وطمعوا وأيسوا، واستبشروا وأبلسوا، وجرى ذلك على الدول والأمم.
وهذه السنة العظيمة في تقلب الأحوال بالأفراد والدول والأمم، جاءت في كثير من قصص القرآن للتذكرة والاعتبار؛ فأمة بني إسرائيل كانت مستضعفة مستخدمة للفراعنة؛ فقلب الله -تعالى- حال الفراعنة إلى الذل والهوان بهلاك فرعون وجنده، وقلب حال بني إسرائيل إلى العز والتمكين {وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ}(الأعراف:137)؛ فما أعجب سنن الله -تعالى- في عباده، وما أسرع تقلبهم من حال إلى حال!!
وقد رأينا خلال الأيام الماضية تقلب الأجواء، وتبدل الأحوال؛ فتظل الناس عواصف ترابية يخافونها، ويحاذرون منها، فإذا هي تزول بأمر الله -تعالى- ليخلفها سحب مباركة تأتي بالخير، ورأينا سحبا تتلبد بها السماء حتى إذا طمع الناس فيها زالت، وخلفها حاصب من الريح والتراب، وأثناء تقلبات الجو تقلبت قلوب العباد؛ فكانت بين رجاء المطر، وخوف الحاصب؛ فأبلسوا حينا واستبشروا حينا آخر؛ فسبحان من قلَّب قلوبهم بين الرجاء والخوف، وسبحان من قلَّب أجواءهم بين التراب والغيث {اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُون وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ الله كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(الرُّوم:48-50).
لاتوجد تعليقات