
سلسلة الأعمال الخيرية- القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية 9- اليقين لا يزول بالشك
نكمل في هذا العدد ما بدأناه من ضوابط وقواعد للعمل الخيري والوقفي ليسهل على من جند نفسه لخدمة هذه الأعمال والمشاريع؛ الأخذ بها، والالتزام بأحكامها التي استقيتها من الكتب الفقهية والتصانيف الوقفية والخيرية .
اليقين لا يزول بالشك من القواعد الخمس الكبرى، تدخل في جميع أبواب الفقه والمسائل المخرجة عليها تبلغ ثلاثة أرباع الفقه أو تزيد(1)، وهي قاعدة مهمة في حياة المسلمين، ومعناها: إنَّ الشيء المتيقَن ثبوته لا يرتفع إلا بدليل قاطع ولا يُحكَم بزواله لمجرد الشك .
ومن أدلة هذه القاعدة قوله تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا}، قال المفسرون: يعني أن الشك لا يغني عن اليقين شيئاً ولا يقوم مقامه(2).
ومن الأدلة من حديث النبي قوله صلى الله عليه وسلم : «إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا»(3).
قال الإمام النووي رحمه الله: «وهذا الحديث أصل من أصول الإسلام وقاعدة عظيمة من قواعد الفقه ، وهي أن الأشياء يحكم ببقائها على أصولها حتى يتيقن خلاف ذلك، ولا يضر الشك الطارئ عليها»(4).
ذكر بعضهم أن لهذه القاعدة ركنان، هما: اليقين السابق والشك اللاحق، فلابد أن يكون لدى المكلف يقين مستقر، ثم يطرأ عليه بعده شك، عندها نقول تحققت القاعدة، فيكون الحكم: “اليقين لايزول بالشك».
فاليقين أقوى من الشك؛ لأن في اليقين حكماً قطعياً جازماً فلا ينهدم بالشك؛ لأن الشك ليس هو الأصل بل اليقين هو الأصل .
ومن التطبيقات الخيرية لهذه القاعدة:
وجوب التثبت عند الحكم على الأشخاص والهيئات والمؤسسات؛ فلا يصح أن تتهم المؤسسات الخيرية والعاملون بها بمجرد الشك في إيصال التبرعات؛ لأن اليقين أن المؤسسات والعاملون فيها الأصلُ فيهم البراءة والسلامة، فلا يخرج عن هذا الحد إلا بيقين.
ومن ثبت احتياجه واستحقاقه للزكاة فالأصل جواز إعطائه حتى يُتَيقَّن زوالُ هذا الوصف عنه، ومن القواعد الفقهية الدالة على هذا الحكم: «الأصل بقاء ما كان على ما كان»(5) .
ولا بد من اعتماد منهجية الحقائق الموثقة في دراسة أي قرار، أو إجراءِ أي تصرُّف، فالحقائق الموثقة بالدلائل والإحصائيات والأرقام تساعد في اتخاذ أي قرار أو تصرف، بعيدا عن الانفعالات العاطفية، وردود الأفعال الغير موزونة .
وإذا صرَّح المتبرع أو الواقف بمصرف معيَّن، أو اشترط شروطاً خاصة، فلا تسوغ مخالفته استناداً إلى دلالة الحال، أو عادة المتبرعين؛ لأن اليقين لا يزول بالشك، وللقاعدة الفقهية: لا عبرة بالدلالة في مقابلة التصريح(6).
ومن ثبت أنه من أهل الحاجة والعوز، ويستحق من مصرف الزكاة أو ريع الوقف المخصص للفقراء، فيعطى من تلك المصارف ما لم يتبدل حاله ويتحسن دخله، فما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين.
ومن شك أنه أخرج الزكاة أم لم يخرجها فالأصل أنه لم يخرجها؛ لأن اليقين لا يزول بالشك.
الهوامش:
1- انظر :الأشباه والنظائر ، للسيوطي ص 51، والوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية،للدكتور محمد صدقي البورنو،ص169 .
2 - انظر: جامع البيان ، للطبري ، 11/153 .
3 - أخرجه مسلم في صحيحه مسلم، برقم (362) .
4 - شرح النووي على صحيح مسلم 4/49
5- الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 251، وابن نجيم: ص 75
6- الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 339.
لاتوجد تعليقات