روائع الوقف في الحياة العلمية
كانت (اقرأ) هي الكلمة الافتتاحيّة للرسالة الإلهيّة الخاتمة التي حملتها هذه الأمّة الإسلاميّة وآمنت بها، ودعت إليها الخلق أجمعين، منذ فجر الإسلام إلى هذا اليوم، قال -تعالى-: {اقرأ باسم ربك الذي خلق}، ودلالة هذه الافتتاحيّة ظاهرة على أنّ العلم والرقيّ المعرفيّ هو جوهر هذه الحضارة الإسلاميّة وروحها.
ولا يحتاج الإنسان إلى تكلّف كثير لكي يتصوّر حالة التخلّف العقليّ والأخلاقيّ التي كانت عليها الإنسانية قبل الإسلام، لا فرق في ذلك بين العرب وغيرهم، إذا ما قورنت الحال بالقيم الحضاريّة والعلميّة والأخلاقيّة التي أضاء بها الإسلام مناحي الحياة الإنسانيّة كافّة، مع الإقرار بأنّ في العرب قبل الإسلام بقايا من فطرة حسنة، وسجايا كريمة، وكذلك في الأمم الأخرى قبل الإسلام وبمحاولات عدة لبعث مشاريع حضارية، لكن الكمال لله وحده، ولدينه فقط.
ولأهميّة العلم في بناء الحضارات وتقوية شوكة الأمّة، وكونه مفتاح النهضة، والترياق الشافي -بإذن الله- من التخلّف، فقد اتجهت الأوقاف الإسلاميّة على مرّ العصور إلى رعاية العلم والتعليم على نحو يصعب حصر أشكاله أو الإحاطة بها، فضلاً عن توثيقه كلِّه وإحصائه، نقول هذا دون مبالغة ولا تهويل.
حصانة فكريّة
ساهم الوقف في بناء حصانة فكريّة متينة في المجتمعات الإسلامية على امتداد التاريخ الإسلامي؛ فكان المسجد هو النواة الأولى لحلقات العلم، وتبع ذلك إقامة الكتاتيب، والمدارس، وعيّن المدرسون، وأُنفق على الطلبة، ووُفرت مصادر العلم وأدواته كلها في المدارس والرُّبَط والكتاتيب وغيرها.
فتعزز من خلال مؤسسات الوقف الجانب الأخلاقي والسلوكي في المجتمع، وجُففت منابع الانحراف، وعولجت السلوكيات والممارسات الخطأ، والمشكلات الاجتماعية الطارئة، وانتشرت القيم والفضائل، وواجه المجتمع الإسلامي النّزعات الهدّامة والفرق الباطنية، وقوّم أفكار أبنائه، وحفظ العقيدة الإسلامية، ونشر تعاليم الإسلام النقية في عدد كبير من الدول والأمصار.
وليس لنا في هذا العرض إلّا إيراد نماذج من بقاع إسلاميّة مختلفة وعصور مختلفة، لتقديم صورة كلّيّة فقط عن عناية الواقفين على اختلاف مستوياتهم برعاية العلم والوقف عليه وعلى أهله ومصادره ووسائله وأدواته وأسباب تيسيره لطلّابه؛ الأمر الذي يدعو كلّ قارئ له ومطّلع عليه إلى أن يرفع رأسه اعتزازاً بدينه، وثقافته، وانتمائه الإسلامي.
أوّلاً: المكتبات الوقفيّة
«ارتبطت حركة الثقافة العربية ارتباطا عميقا وقويا بالمكتبة، منذ أن شرع العرب في تكوين أعمال تأليفية بسيطة، وتوجهوا نحو تخصيص مكان يجمع فيه ما يصنف ويؤلّف، ليصل إليه أكبر قدر ممكن من القراء، ومنذ البدء كان الفرد هو صاحب الفضل في ترسيخ بنية المكتبة، هو الذي يبحث ويجمع ويكوّن مكتبة، ثمّ يوقفها لتكون نافذة ثقافة للجميع».
فالركن الأساس للنشاط العلمي في أي مكان وزمان هو الكتب والمكتبات؛ فمن دونها لا تتمكن المدارس من أداء رسالتها، ولا يستطيع المدرّسون والطلبة والباحثون مواصلة دراستهم وأبحاثهم؛ لذلك لم تخلُ مدرسة في العهود الإسلامية من خزانة كتب، وقد شارك في هذه الأنماط الوقفية قطاع عريض من المجتمع: خلفاء وسلاطين، وحكام وأمراء، وأثرياء وعلماء ووزراء، وبعض من عامة الناس.
توفير الكتب
ومن المسلّمات أنّ المكتبات الوقفيّة عند المسلمين كانت هي العامل الأوّل في توفير الكتب لطلّاب العلم على مدى قرون طويلة، وقد انتشرت في العالم الإسلاميّ حتى لا تكاد تجد مدينة خالية منها، حتى قال أبو حيان النحوي الأندلسي: «أنا أيَّ كتاب أردتُه استعرته من خزائن الأوقاف»، قال ياقوت -في وصف مدينة مرو الشاهجان: «أقمتُ بها ثلاثة أعوام فلم أجد بها عيباً إلا ما يعتري أهلها من العرق المديني؛ فإنهم منه في شدة عظيمة، قلَّ من ينجو منه في كل عام، ولولا ما أصاب البلاد من خراب التتر لما فارقتها إلى الممات؛ لما في أهلها من الرِّفْد، ولين الجانب، وحسن العشرة، وكثرة كتب الأصول المتقنة بها، فإنّي فارقتها وفيها عشرُ خزائن للوَقْف لم أر في الدنيا مثلها كثرةً وجودةً.
مناقب الإسكندرية
قال ابن جبير في رحلته -يصف انطباعه عن الإسكندريّة والحياة العلميّة فيها-:
«ومن مناقب هذا البلد ومفاخره العائدة في الحقيقة إلى سلطانه: المدارس والمحارس الموضوعة فيه لأهل الطِّبِّ والتعبُّد، يَفِدُون من الأقطار النائية؛ فيلقى كل واحد منهم مسكناً يأوي إليه، ومدرِّسًا يعلِّمُه الفنّ الذي يريد تعلُّمَه.
واتّسع اعتناء السلطان بهؤلاء الغرباء الطارئين حتى أمر بتعيين حمّامات يستحمون فيها متى احتاجوا إلى ذلك، ونصب لهم مارستاناً لعلاج من مرض منهم، ووكّل بهم أطبّاء يتفقّدون أحوالهم، وتحت أيديهم خُدَّامٌ يأمرونهم بالنّظر في مصالحهم التي يشيرون بها من علاج وغذاء، وقد رتّب أيضاً فيه أقواماً برسم الزيارة للمرضى الذين يتنزّهون عن الوصول للمارستان المذكور من الغرباء خاصة، ويُنْهُون إلى الأطباء أحوالَهم ليتكفّلوا بمعالجتهم»، وأيُّ عنايةٍ فوق هذه؟!
وقد استمرّت هذه الرُّوح في محبّة العلم وتعظيم أهله وطلبته وحملته، حتى نصّ عارف حكمت (ت 1275هـ) في وثيقة وقْف مكتبته المشهورة بالمدينة المنوّرة، أن تُفتح المكتبة كلَّ يومٍ بعد طلوع الشمس بساعة واحدة، حتى قُبَيْل ساعة من الغروب، ولو لم يجيء أيُّ فردٍ إليها، كيف لا؟! وهذا المذكور -رحمه الله، وتقبّل منه-، بذلَ ذات يومٍ أربعمائة جنيهٍ عثمانيٍّ لشراء كتابٍ واحد.
ومن حرص أهل الخير على الكتاب وصيانته باعتباره وعاء العلم، فقد كان كثيرٌ من الواقفين يمنعون خروج الكتاب خارج المكتبة خوفاً من ضياعه، بل يمنعون من عُرف عنه التّفريط في الكتب وامتهانها من الاطّلاع عليها، ولو داخل المكتبة.
قال نجم الدِّين الغزِّي في ترجمة خطّاب الضّرير: «خطّاب، الشيخ الصالح العابد الزاهد، شيخ الإقراءِ بمدرسة الشيخ أبي عمر بصالحيّة دمشق، كان ضريراً حافظاً لكتاب الله -تعالى- نافعاً للمجاورين بالمدرسة المذكورة، وكان إذا حصل له شيءٌ من الدّراهم اشترى به مصحفاً، ووَقَفَه».
ألم نقُل إنّها كانت روحَ البذل والخير، ومحبّة العطاء والنّفع، سرَت في الفقراء والمعدِمين، على نحوٍ لا يقلّ عن الأغنياء وأصحاب الدُّثُور والمُلَّاك!
لاتوجد تعليقات