
ردا على شبهة: هل كان عصر النبي علمانيًا؟
من أغرب ما نقرأ ونسمع ممن يدافع عن العلمانية قولهم: إنَّ عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان علمانيًا، لأن العلمانية حسب توصيفهم هي التسامح مع المعتقدات وهذا ما أمرنا به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذكر هذه العبارة منكر السنة أحمد صبحي منصور في محاضرة بعنوان: «لماذا الحديث عن نفاق الصحابة؟»، كما ذكرها أيضًا أحد المدافعين عن العلمانية في لقاء مع قناة العربية إجابة عن سؤال: ما العلمانية من وجهة نظركم؟
وهذه الجملة «عصر النبي كان علمانيًا» يضرب جملة من الثوابت عند المسلمين، أولها: ما يحويه قول الله -تعالى-: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الأنعام 162، من معانٍ وقواعد، تربط كل حياة المسلم بالوحي الشريف، وحتى لا ينخدع المسلمون بمثل تلك الجمل البراقة ينبغي علينا توجيه مثل هذه الكلمات القادمة إلى الشباب من باب الثقافة الوقائية.
العلمانية ليست التسامح مع المعتقدات
يقول هؤلاء: إن العلمانية تعني التسامح مع المعتقدات، والنبي كان يفعل ذلك إذاً عصر النبي كان علمانياً! والحقيقة أن العلمانية: هي فصل الدين عن الحياة وليست تعني ما يقولون، وهذا ما قررته دائرة المعارف البريطانية، حيث قالت عن العلمانية: حركة اجتماعية تستهدف صرف الناس من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها. ويقول قاموس لوبستر: نظام من المبادئ والتطبيقات يرفض أي شكل من أشكال الإيمان والعبادة. ويقول أيضاً: إنها: الاعتقاد بأن الدين والشؤون لكنسية لا دخل لها في شؤون الدولة ولاسيما التربية العامة. وكل التعريفات العربية والأجنبية تشير إلى هذا المعنى؛ فمن قال بأن العلمانية هي مجرد التسامح مع المعتقدات فهو أحد رجلين: جاهل أو مدلس.
هل كان النبي علمانياً بهذا الشكل؟
نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله -تعالى-: {فأقم وجهك للدين حنيفاً} وقوله -تعالى-: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله}، وقوله -تعالى-: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول}. وقوله -تعالى-: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً} الأحزاب: 36. وهذه الآيات تعارض مفهوم العلمانية الذي يقصر تدبير شؤون الحياة على العقل البشري ويجعله منفردا في تصور حقائق الوجود، بل إن ذلك المفهوم يصادم أيضاً قول الله -تعالى-: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهو عن المنكر} الحج: 41. فالله -تعالى- جعل إدارة الحياة وإزالة المنكر فيها ونشر المعروف وهو كل ما عرف أنه طاعة لله، جعل ذلك مرتبطاً بالدين ولم يفصله عنه.
هل العلمانية تتسامح مع المعتقدات؟
يدلس المغرضون فيقولون: إن العلمانية هي التسامح مع المعتقدات وبهذا يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - علمانياً – هكذا يروجون نصاً – بيد أن الواقع يكذب تسامح العلمانية مع المعتقد الإسلامي خاصة، ولذا فإن الدين الوحيد المتهم بالإرهاب والتطرف هو الدين الإسلامي، والتراث المرفوض شكلاً وموضوعا هو التراث الإسلامي، والعلماء المستباح الطعن فيهم هم علماء الإسلام فقط، فالحروب الصليبية الفكرية قد اتقدت في ذهن شخص مثل لويس التاسع (611هـ - 669هـ) حينما هزم في الحرب الصليبية السابعة، وأسر في المنصورة بمصر؛ فأعد مخططًا من أربعة محاور لغزو سلمي للعالم الإسلامي، وبعد مائة عام وأكثر أخذ القائد الفرنسي نابليون بونابرت في تنفيذ المشروع العلماني المعتدي على الثقافة الإسلامية في العالم الإسلامي ولو كان العلمانية متسامحة لتركت بلدان المسلمين بأفكارها ومعتقداتها.
ملامح العلمنة الإسلامية المزعومة
حتى تستطيع معرفة العلمانية المسمومة التي يسمونها بالإسلامية تستطيع إدراكها من خلال ما يلي: أولاً في الإصلاح الديني ينادون بإعادة تفسير الإسلام بما يتلاءم مع العصر الحديث، ويتهمون من يعارض ذلك بالرجعية والتخلف، ويسمونه بالأصولية والسلفية على سبيل الذم، وهذه الصفات في حقيقة الأمر (الأصولية والسلفية) صفات مدح للمسلم المتمسك بأصول دينه؛ فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول للسيدة فاطمة: أنا لك خير سلف، وقد قال الله -تعالى- لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بعدما ذكر أنبياءه في سور الأنعام: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام: 90)، فأمره بالرجوع إلى ثوابتهم ولم يجعل ذلك تخلفاً، والأصولية تعني الرجوع إلى القواعد والثوابت.
- ثانياً: في الاجتماع ستجدهم يدعون إلى حرية المرأة، يروجون إلى عدم فرضية الحجاب، ويحاولون الاستدلال بالنصوص على معتقدهم الباطل، فيقولون: إن الحجاب خاص بأمهات المؤمنين، ولا يجرمون الاختلاط بل يدعون إلى المساواة بين المرأة والرجل في الميراث ليعتقوها من أسر الرجل وتقاليد الأسرة فإذا بهم يدعون إلى كل انحلال أخلاقي، ثالثاً: في السياسة، يتهمون آيات الأحكام بأنها لا تناسب العصر أو أنها قاسية، أو أنها تتعارض مع قوانين الدولة وحقوق الإنسان، رابعاً: في الاقتصاد توضع أطر جديدة وأفكار حرة تنابذ الدين وتنافي الأخلاق.
كيف نرد عليهم؟
إذا سمعت أيها القاريء الكريم من يقول إن عصر النبي كان عصراً علمانياً فعليك بذكر ما يلي:
{وأن احكم بينهم بما أنزل الله}
- أولاً: لو كان النبي علمانياً كما يقول المغرضون فما معنى قول الله -تعالى-: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } (المائدة: 49)، فهو في هذه الآية يجمع الناس على تشريع واحد حتى لا يختلفوا باختلاف عقولهم وأهوائهم، وما معنى قول الني -[-: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وسنتي؟».
التشريعات الاجتماعية
- ثانياً: كيف نعمل مع التشريعات الاجتماعية التي شرعها النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل: الأمر بالحجاب، والنهي عن الاختلاط والأمر بغض الأبصار، وجعل للزنا عقوبته، ولم يقل إن ذلك راجع إلى تراضي الطرفين، قال الله -تعالى-: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} (النور: 2)، أليست تلك تشريعات يجب على المجتمعات المسلمة مراعاتها؟
الأحكام الاقتصادية
- ثالثاً: لماذا وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - أحكاماً اقتصادية للدولة فبين لنا البيوع المحرمة والجائزة ومنها الربا: {وأحل الله البيع وحرم الربا} (البقرة: 275)، وقال: لا يبع أحدكم على بيع أخيه، وحرم جملة من البيوع كبيع النجس، وتلقي الركبان، وبيع المحتكر، والبيع عند أذان الجمعة بين يدي الخطيب، أليست تلك تشريعات بوحي؟
- رابعاً: إذا كان النبي علمانياً بمفهومكم فلماذا حرم شرب الخمر وكل ما يضر العقل، وجعل على ذلك عقوبة وحدّاً ولم يتركها للحرية الشخصية؟ ففي صحيح مسلم أن علياً - رضي الله عنه - أمر عبد الله بن جعفر أن يجلد الوليد بن عقبة فجلده وعلي يعد حتى بلغ أربعين فقال أمسك، ثم قال جلد، النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمانيين، وكل سُنُّة وهذا أحب إلي» والسؤال: هل فصل النبي هنا بين الدين والحياة؟
آليات علمنة الإسلام
حتى يكون المسلم على بينة من الأمر، راسخاً أمام محاولات إذابة الثقافة العربية الإسلامية في الثقافات الغربية الوافدة، ينبغي أن يكون على علم بوسائل الأفكار الوافدة والمنحرفة التي تحاول الانخراط في المجتمع المسلم، ومن أهم تلك الوسائل:
1- استبدال المرجعية الدينية الإسلامية بمرجعية أخرى كالمرجعيات العالمية تحت مسميات براقة ومن ثم تحدث قطيعة كبيرة بين المسلم ودينه.
2- وضع الثوابت الإسلامية التي تربى عليها العرب والمسلمون موضع شك، ومن ثم يتم دراستها بقراءة أخرى وتفاسير جديدة تتلاءم مع المرجعية الجديدة!
3- تحطيم أدوات وحدة الأمة الإسلامية كلها، كالانقضاض على لغة القرآن التي تجمع المسلمين، أو تدمير ما يسمى عند المسلمين بالحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلامي.
4- تفتيت الأسرة التي بها يتماسك المجتمع، وذلك من خلال استهداف المرأة وإشاعة صور التفلت والانحلال الخلقي.
وبهذا نصل إلى أن العلمانية ليست مجرد التسامح مع المعتقدات كما يقال، بل هي فصل الدين عن الحياة كلها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن كذلك بل كان يربط الحياة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً بالوحي الذي جاءه من الله -تعالى-؛ فعلينا توخي الحذر في حرب المصطلحات الوافدة.
لاتوجد تعليقات