
رؤية منهجية لتحقيق العبوديةالمنشودة – مقومات إيجاد الفرد المسلم (البناء الإيماني السلوكي)
المنهج الإصلاحي هو ذلك الطريق الذي سار عليه النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته للناس لإخراجهم من الظلمات إلى النور، وسار عليه الصحابة -رضوان الله عليهم- من بعده والتابعون والمصلحون، وقد جاءت آيات القرآن الكريم لتبين وتوضح هذا المسار اللازم لتحقيق ذلك الفلاح المنشود في إحداث التغيير اللازم لتعبيد الناس لرب العالمين، وقد جاء قول الله -عزوجل- في سورة آل عمران: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، ليوضح لنا محاور هذا المسار الإصلاحي القويم، واليوم نتحدث عن البناء الإيماني السلوكي.
أرشد الله -عزوجل- بعد الأمر الأول بتحصيل التقوى - في ذلك المقطع من الآيات الكريمات التي بين أيدينا - إلى المقوم الثاني من مقومات الوجود (وهو البناء الإيماني السلوكي)؛ فقد قال الله -عزوجل-: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.
استكمال المقوم الإيماني
وهذا يُعد مقوما لازما لاستكمال المقوم الإيماني التعبدي الأول، بل على الحقيقة هو مقوم مرتبط به ارتباطا وثيقا؛ فكمال عبادة الفرد وصحتها يظهر أثرها حتما في صحة سلوكه وأخلاقه مع الناس من حوله؛ فالعبادات والمعاملات توأمان لا يفترقان في سائر نشاطات العبد ومحطات حياته، وجمال السُّلوك دليل على قوة أثر العبادة وصحتها، كما أنَّ قبح السلوك وانحراف الأخلاق دليلٌ على ضعف أثر العبادة أو انعدامها؛ فالعلاقة بين العبادات والمعاملات علاقةٌ قويَّة ومتلازمة.
الصواب والإخلاص
فالعبادات إن جمعت بين الصواب والإخلاص أشعت في قلب المسلم النور والإيمان وبعثت في روحه الحركة نحو الخير، والمعاملات السلوكية الصالحة هي بيان لصدق علاقة العبد بربه واستجابته الخالصة لأوامره، بل وهي سبيل في ذاتها سبيل لزيادة التقوى المطلوبة وتحصيل لذة العبادة المنشودة؛ فالله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، كما جاء في الحديث، وقد بين الله -عزوجل- أن الصلاة – التي هي عنوان العبودية والتقوى – تنهى صاحبها عن السلوك المنكر {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}، وجاء في الحديث عن ابن عباس مرفوعا «مَن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بُعداً»، وذكر السعدي -رحمه الله- في تفسيره لتلك الآيات: ثم أمرهم -تعالى- بما يعينهم على التقوى وهو الاجتماع والاعتصام بدين الله، وكون دعوى المؤمنين واحدة مؤتلفين غير مختلفين؛ فإن في اجتماع المسلمين على دينهم، وائتلاف قلوبهم يصلح دينهم وتصلح دنياهم، وبالاجتماع يتمكنون من كل أمر من الأمور، ويحصل لهم من المصالح التي تتوقف على الائتلاف ما لا يمكن عدها، من التعاون على البر والتقوى، كما أن بالافتراق والتعادي يختل نظامهم، وتنقطع روابطهم، ويصير كل واحد يعمل ويسعى في شهوة نفسه، ولو أدى إلى الضرر العام.
المقوم الثاني
لذلك يعد هذا المقوم المتمثل في تحقيق الواجب الإيماني السلوكي للأفراد والمؤدي إلى إشاعة المحبة والائتلاف ونبذ الفرقة والاختلاف بين الأفراد في داخل الكيان الإصلاحي، وبينهم وبين باقي أفراد المجتمع الإسلامي من حولهم سببا فاعلا إلى تجزر الوجود المجتمعي للكيان الإصلاحي، وأصلا مهما في استقرار هذا الكيان وحمايته من الانهيار الداخلي.
حماية المجتمع الإسلامي
كما أنه في الوقت ذاته يعد على المستوى العام من أعظم الأمور المؤدية لحماية المجتمع الإسلامي داخليا؛ لذلك نجد أن من أوائل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة حين دخلها - وقد كان فيها خليط مجتمعي من المؤمنين (كالمهاجرين والأنصار) الذين يمثلون الطائفة المؤمنة المصلحة، وأفراد من القبائل كـ(الأوس والخزرج)، ومنافقين متآمرين، يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر وعلى رأسهم (عبد الله بن أبي بن سلول)، ويهود مخالفين له في الدين- أنه آخى بين المهاجرين والأنصار، وحرص على توجيه الناس لهذا السلوك الإيماني داخل المجتمع بقوله صلى الله عليه وسلم : «يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام».
الكيان الإصلاحي
لذلك وبناء على ما ذكرنا؛ فإن أي كيان إصلاحي يجب عليه أن يهتم بأمرين ضروريين لتحقيق هذا المقوم الثاني:
- أولا: الحرص على تحقيق الأخوة الإيمانية بين أفراد الكيان؛ فتحقيق مفهوم الأخوة الإيمانية بين الأفراد، يعد رباطا وثيقا، وحصناً حصينا يمنعُ انفلات العقد وتسلُّطَ الأعداء فــ«يد الله مع الجماعة» يحميها ويحفظها ويرعاها، بل هي من أعظم أسباب حفظ الأفراد أنفسهم من مسالك الأشقياء وطريق الاعوجاج؛ «فالمؤمن مرآة أخيه» كما قال صلى الله عليه وسلم : «المؤمن مرآة أخيه والمؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه»، «المؤمن مرآة أخيه إذا رأى فيه عيبا أصلحه».
وهذا من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم في بيان حقوق الأخوة الإيمانية؛ فالمرآة تجمع من الصفات التي يحتاجها المؤمن في تعامله مع أخيه الكثير والكثير منها:
•أن المرآة كلما كان سطحها أنقى كان كشفها للعيب أوضح، والمؤمن كلما كانت نفسه أنقى وقلبه أتقى كانت بصيرته بالعيب أوضح وحرصه على أخيه أعظم.
•المرآة تكشف لصاحبها العيوب الظاهرة، والمؤمن يكشف لأخيه عيوبه، سواء كانت باطنة ظهر أثرها أم ظاهرة.
• المرآة تكشف لصاحبها العيب بلا ضجيج، والمؤمن يبين لأخيه عيبه بأسلوب حسن رقيق.
• المرآة لا تكشف العيوب لغير حاملها، والمؤمن لا يكشف عيب أخيه إلا لمن يقدر على إصلاحه.
• المرآة لا تعرض صورة صاحبها إن غاب عنها، والمؤمن لا يفشي سر أخيه إن غاب عنه.
• المرآة لا تقتصر على كشف العيب فقط، بل تعين على تلافيه، والمؤمن لا يقتصر على كشف عيب أخيه فقط، بل يساعده في تخطيه.
•المرآة تتغير فيها صورة صاحبها بزوال العيب عنه، والمؤمن ينسي عيب أخيه بمجرد توبته منه.
قال المناوي في فيض القدير: قال الطيبي: إن المؤمن في إراءة عيب أخيه إليه كالمرأة المجلوة التي تحكي كل ما ارتسم فيها من الصور ولو كان أدنى شيء؛ فالمؤمن إذا نظر إلى أخيه يستشف من وراء حاله تعريفات وتلويحات؛ فإذا ظهر له منه عيب قادح كافحه؛ فإن رجع صادقه، وقال العامري: معناه كن لأخيك كالمرآة تريه محاسن أحواله وتبعثه على الشكر، وتمنعه من الكبر، وتريه قبائح أموره بلين، في خفية تنصحه ولا تفضحه، هذا في العامة أما الخواص؛ فمن اجتمع فيه خلائق الإيمان وتكاملت عنده آداب الإسلام، ثم تجوهر باطنه عن أخلاق النفس، ترقى قلبه إلى ذروة الإحسان؛ فيصير لصفائه كالمرآة إذا نظر إليه المؤمنون رأوا قبائح أحوالهم في صفاء حاله وسوء آدابهم في حسن شمائله .
أنت مرآة لأخيك
وقال أيضا في ذات الفيض: فأنت مرآة لأخيك يبصر حاله فيك، وهو مرآة لك تبصر حالك فيه؛ فإن شهدت في أخيك خيرا فهو لك وإن شهدت غيره فهو لك، وكل إنسان مشهده عائد عليه، ومن ثم قالوا: من مشهدك يأتيك روح مددك «والمؤمن أخو المؤمن»: أي بينكما أخوه ثابتة بسبب الإيمان {إنما المؤمنون إخوة}، (يكف عليه ضيعته): أي يجمع عليه معيشته ويضمها له، وضيعة الرجل ما منه معاشه، (ويحوطه من ورائه): أي يحفظه، ويصونه، ويذب عنه، ويدفع عنه من يغتابه، أو يلحق به ضررا، ويعامله بالإحسان بقدر الطاقة والشفقة والنصيحة وغير ذلك، قال بعض العارفين: كن رداءً وقميصا لأخيك المؤمن، وحطه من ورائه، واحفظه في نفسه وعرضه وأهله؛ فإنك أخوه بالنص القرآني؛ فاجعله مرآة ترى فيها نفسك؛ فكما يزبل عنك كل أذى تكشفه لك المرآة؛ فأزل عنه كل أذى به عن نفسه.
الاهتمام بحقوق الأخوة
لذلك فالواجب على الأفراد جميعهم داخل الكيانات الإصلاحية، الاهتمام بحقوق الأخوة الإيمانية، ومراعاتها فيما بينهم، ولاسيما مع تتابع الأعمال وضغطها والتبسط في المعاملات بين الأفراد نظرا لكثرة الاحتكاك بين الأفراد داخل الكيان التي قد تؤدي إلى الغفلة عن تلك الحقوق الأخوية الإيمانية اللازمة لهدم أي فجوة نفسية، أو نزغة شيطانية قد تظهر مع طول الأمد وتتابع العمل واختلاف وجهات النظر؛ فالشيطان أيس أن يُعبد في جزيرة العرب، لكنه لم ييأس من التحريش بين المؤمنين كما قال صلى الله عليه وسلم : «إن الشيطان قد أيس -وفي رواية: يئس- أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم؛ لذا فتفعيل تلك الحقوق بين جميع الأفراد في الكيانات الإصلاحية، هو مؤشر لصحة البناء الإيماني السلوكي، وهو أمر مهم جدا لحفظ التماسك الداخلي للكيانات الإصلاحية والمؤدي للوجود المجتمعي بالتبعية .
لاتوجد تعليقات