رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: محمد محمود محمد 13 مايو، 2025 0 تعليق

دروس من قصص القرآن الكريم – هجرة إبراهيم -عليه السلام-  (٤)

  • المؤمن إذا أخلص لله وفزع عند الخوف إلى الصلاة فإن الله ينجيه
  • الامتثال لأمر الله تعالى لا يأتي إلا بالخير والتوكل على الله مع طاعته والامتثال لأمره يُكسب المرء رضا الله تعالى
  • من عزم على فعل الطاعات وبذل مقدوره في أسبابها ثم حصل له مانع يمنع من إكمالها فإن أجره قد وجب على الله

يقول الله -تعالى- عن نبيه إبراهيم -عليه السلام-، {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 71)، فإنهما -عليهما السلام- خرجا من العراق مهاجرين إلى الشام، وبها كان مقام إبراهيم -عليه السلام- أيام حياته، قال محمد بن إسحاق -رحمه الله-: خرج إبراهيم -عليه السلام- مهاجرا إلى ربه، وخرج معه لوط -عليه السلام- مهاجرا، وتزوج إبراهيم -عليه السلام- سارة ابنة عمه، فخرج بها معه يلتمس الفرار بدينه، والأمان على عبادة ربه، حتى نزل حرّان، فمكث فيها ما شاء الله أن يمكث، ثم خرج منها مهاجرا حتى قدم مصر، ثم خرج من مصر إلى الشام، فنزل السبع من أرض فلسطين، وهي برّية الشام، ونزل لوط -عليه السلام- بالمؤتفكة، وهي من السبع على مسيرة يوم وليلة، أو أقرب من ذلك، فبعثه الله نبيا يعني لوطاً -عليه السلام-. (تفسير الطبري، 16/313).

       وعلى ذلك يكون المقصود بتلك الأرض التي بارك الله فيها للعالمين تلك الأرض التي تمتد من حَرَّان (مدينة تقع جنوب تركيا قرب حدود سوريا) إلى فلسلطين، والحق أن بعض تلك الأحداث التي ذكرها ابن إسحاق مختلف في ترتيبها بين المؤرخين، والذي يعنينا منها هو أن إبراهيم -عليه السلام- هاجر ثلاث هجرات، واحدة منها يرجح أنها كانت إلى مصر وكانت إقامته فيها مؤقتة، وقيل إنه قدمها طلباً للميرة عندما أصاب الشامَ قحط، وقيل قدمها أولاً ثم هاجر بعدها إلى الشام. (عمدة القاري، 12/211).

 في أرض جبار من الجبابرة!

       لقد جاء في بعض الأحاديث الصحيحة الحديث عن هجرة إبراهيم -عليه السلام- مع سارة إلى أرض جبار من الجبابرة أو ملك من الملوك، لم يأت في السنة تصريح بأنها مصر، لكن المفسرين والمؤرخين أخذوا ذلك من كتب أهل الكتاب، أما الذي في الصحيحين فهو من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ومضمونه أن إبراهيم -عليه السلام- بينا هو ذات يوم وزوجه سارة؛ إذ أتيا على أرض يحكمها جبار من الجبابرة، فقيل لذلك الجبار: إن ها هنا رجلا معه امرأة من أحسن الناس، وكانت السيدة سارة أجمل النساء بعد أمنا حواء، فأرسل إليه ذلك الجبار جنوده فسألوه عنها، فقالوا: من هذه؟ قال: أختي، -وهذا من استعمال المعاريض في الكلام-، فإنه إذا جاز لغير الأنبياء الكذب الصراح مع الأعداء للنجاة من الهلاك، فإن الأنبياء لشرفهم لا يأتون ذلك ولكن يستخدمون المعاريض، وهو الكلام الذي يحتمل وجهين فيحمله السامع على وجه، ويريد به القائل وجهاً آخر، فإنه -عليه السلام- قصد أنها أخته في الإسلام، وظن جنود الظالم أنها شقيقته.

      ثم إن إبراهيم -عليه السلام- جاء إلى سارة فقال لها: إنه ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي، فلا تكذبيني، فأرسل ذلك الجبار إليها بعد أن أخذها جنوده إليه فلما دخلت عليه ورأى حسنها ذهب يتناولها بيده فأُخذ، أي صعق، ولم يستطع أن يحرك يده، فقال: ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت الله فأطلق، ثم حاول أن يتناولها الثانية فأخذ مثل المرة الأولى أو أشد، فقال: ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت فأطلق، فدعا بعض حجبته، فقال: إنكم لم تأتوني بإنسان، إنما أتيتموني بشيطان؛ حيثُ لم يَقدِرْ عَليها، بلْ صُرِع كلَّما اقْتَرَبَ مِنها، ثمَّ لَمَّا رَأى مِنها ذلكَ أطلقها وأَعْطاها هاجَرَ خادِمةً لها، فرَجَعَت سارةُ إلى إبراهيمَ -عليه السلام-، فوَجدَتْهُ يُصلِّي، فأَشارَ إِليها، «مَهْيَا»، أي: ماذا جرى معك؟ فقالتْ: ردَّ اللهُ كيدَ الكافرِ الفاجِرِ وأخدمني هاجر.

هجرته إلى فلسطين

       أقام إبراهيم -عليه السلام- بعد ذلك في فلسطين، واستقر فيها مع زوجته سارة وخادمتها هاجر -عليهم رحمة الله وبركاته-، وهناك كثر ماله، ولكنّه كان يتمنّى الولد وقد كبر سِنّه، وبقي صابرًا يدعو الله أن يرزقه بالولد الصالح، قال عنه الله -تعالى-: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} (الصافات: 99- 101)، والغلام الحليم هو إسماعيل -عليه السلام-، قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: «وهذا الغلام هو إسماعيل -عليه السلام-، فإنه أول ولد بشر به إبراهيم، -عليه السلام-، وهو أكبر من إسحاق باتفاق المسلمين وأهل الكتاب، بل في نص كتابهم أن إسماعيل وُلد ولإبراهيم -عليه السلام-، ست وثمانون سنة، وولد إسحاق وعمر إبراهيم تسع وتسعون سنة» (تفسير ابن كثير، 7/27). فلقد أحسّت السيدة سارّة بإبراهيم -عليه السلام- ورغبته في الولد الصالح فقدّمت له السيدة هاجر فتزوجها، وولدت له إسماعيل، -عليهم جميعًا أفضل الصلاة والتسليم-.

إلى مكة بإسماعيل

      بعد أن ولدت هاجر إسماعيل -عليه السلام- أمر الله -تعالى- إبراهيم أنْ يأخذ ابنه إسماعيل وزوجته هاجر إلى الجزيرة العربية؛ حيث مكان بيت الله الحرام، حتى إذا وصل إلى مكة وكانت إذ ذاك صحراء خالية، ووادٍ قفر بين الجبال، إذا به يقدم على عمل غريب، فقد ترك ابنه الرضيع مع أمه هاجر، ومضى، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: جاء نبي الله إبراهيم بإسماعيل وهاجر -عليهم السلام-، فوضعهما بمكة في موضع زمزم، فلما مضى نادته هاجر: يا إبراهيم إنما أسألك، ثلاث مرات: من أمرك أن تضعني بأرض ليس فيها ضرع ولا زرع، ولا أنيس، ولا زاد ولا ماء؟ قال: ربي أمرني، قالت: فإنه لن يضيعنا قال: فلما قفا إبراهيم قال {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ}، يعني من الحزن {وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} (سورة إبراهيم، آية: 38)، ثم انطلق إبراهيم -عليه السلام- حتى إذا كان عند الثنية (وهي الطريق في الجبل)؛ حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات وهو على ثقة بأن الله لن يضيع زوجته وابنه: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم: 37). (تفسير الطبري، 17/20).

أهم الدروس المستفادة

لقد تعلمنا من قصة إبراهيم وسارة مع الجبار أمورا عدة أهمها:

  •  أن المؤمن إذا أخلص لله وفزع عند الخوف إلى الصلاة فإن الله ينجيه.
  •  وأنَّ المؤمن ينبغي أن يتحرى الصدق ولو في أحلك المواقف وأشدها بأسًا، فإن كان في الصدق تسلط كافر أو فاجر أو ظالم عليه حل الكذب ولكن استعمال المَعاريضِ أولى، ففي استعمالها مندوحة عن الكذب الخالص.

وكذلك تعلمنا من قصة إبراهيم وسارة مع هاجر أم إسماعيل -عليهم رحمات الله وبركاته-:

  •  أن الامتثال لأمر الله -تعالى- لا يأتي إلا بالخير؛ فإن التوكل على الله مع طاعته والامتثال لأمره يُكسب المرء رضا الله -عز وجل-، قال -تعالى-: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (سورة الطلاق، آيات: 2، 3).
  •  ومنها: أن من عزم على فعل الطاعات وبذل مقدوره في أسبابها، ثم حصل مانع يمنع من إكمالها، فأجره قد وجب على الله، كما في قصة الذبح؛ فإن الله -تعالى- أتم الأجر لإبراهيم وإسماعيل حين أسلما لله وأذعنا لأمره، ثم رفع عنهما المشقة، وأوجب لهما الأجر الدنيوي والأخروي.
  •  ومنها: أن الجمع بين الدعاء لله بمصالح الدنيا والدين من سبيل أنبياء الله، وأن دعاء الخليل -عليه السلام- لأهل البيت الحرام بالأمرين، وتعليله الدعاء بالأمور الدنيوية وسيلة إلى الشكر، فقال: {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم: 37).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك