رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي 23 أبريل، 2025 0 تعليق

دروس من قصص القرآن الكريم – إبراهيم عليه السلام وقومه (2)

  • تميزت دعوة إبراهيم عليه السلام بإعمال العقل من أجل الوصول إلى الحق وقد انطلق في جميع مناظراته من مبدأ الدعوة إلى التفكر وعدم الاسترسال مع الباطل
  • أحرج إبراهيم عليه السلام أهل الباطل وكشف خواء معتقدهم وتهافته فعند ذلك استشاطوا منه غضبا وقرروا أن ينتصروا لهذه الآلهة المزيفة
  • علمنا إبراهيم عليه السلام في دعوته لقومه أن الحق أبلج وأن الباطل لجلج فالحق ظاهر ثابت والباطل مضطرب غامض
 

لقد بعث إبراهيم -عليه السلام- في العراق في مجتمع متعدد الآلهة، فكان هناك من يعبد الملك، وكان الملك الذي يحكم العراق -وقت بعثة إبراهيم عليه السلام- هو النمروذ بن كنعان، عن قتادة قال: «كنا نُحدَّثُ أنه ملك يقال له نمروذ، وهو أول ملك تجبر في الأرض، وهو صاحب الصرح ببابل»، (الطبري، 5/431)، وكذلك كانوا يعبدون الشمس والقمر وكوكب الزهرة، ويسمونه عشتار، وكوكب المريخ ويسمونه مردوخ، ويقولون إن الزهرة هي ربة الحب؛ لتألقها وزهوها وتقلب أحوالها، وينسبون إلى المريخ أنه رب الحرب لاحمرار لونه كلون الدماء، وكانوا قد صنعوا لهذه الكواكب تماثيل يعبدونها، (المنار، 4/474).

منزلة العقل في دعوة إبراهيم

      قد تميزت دعوة إبراهيم -عليه السلام- بأنها دعوة لإعمال العقل، من أجل الوصول إلى الحق، فهو في جميع مناظراته ينطلق من مبدأ الدعوة إلى التفكر، وعدم الاسترسال مع الباطل عقيدة وسلوكاً لمجرد انتشاره دون وقفة تدبر، لقد تميزت دعوته -عليه السلام- بإعمال العقل، مع إعراضه عن الجدل العقيم، والوصول إلى الحق من أقصر طريق، قال -تعالى-: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74)} (الشعراء: 69-74)، فليس هناك أي سبب عقلي لتقديس هذه الحجارة الصماء الجامدة إلا أنها عقيدة موروثة وحسب.  

الحق من أقصر طريق

          لقد قدم -عليه السلام- لقومه البديل الذي بعثه الله كي يدعو إليه، فدعاهم من فوره إلى الإيمان بالله، وبين لهم صفته التي من أجلها ينبغي أن تصرف له العبادة والتقديس فقال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}، (الشعراء: 78-82)، فهذه خمسة أسباب ذكرها -عليه السلام- في سلاسة وبساطة من غير جدل ولا تعقيد:
  • أولاً: أعبد الله لأنه الذي خلقني.
  • ثانياً: ألهمني أسباب الحياة وآلهتكم لم تخلقني ولا تقدم لي دلالة ولا معونة على شيء.
  • ثالثاً: لأنه الرب الذي يطعم ويسقي ويشفي.
  • رابعاً: لأنه الذي قدر عليَّ الموت.
  • خامساً: لأنه الذي وعدني بالبعث يوم القيامة وأرجوه أن يغفر لي ذنوبي يوم ذاك.
هي عبارات وجيزة لكنها ثاقبة، نفذت إلى كبد الهدف من غير إخلال ولا إطناب، فالله لا أدل على إلهيته من هذه الخمسة، واحدةٌ منها تدل على وجوده، واثنتان تدلان على إلهيته، واثنتان هما بمثابة النتيجة لما سبق. فأما الذي يدل على وجوده فقوله: {الذي خلقني} فالله هو المعبود الوحيد في جميع الملل والنحل الذي صرَّح بأنه الخالق، ما زعم أحدٌ ممن يعبدون البقر أو الشجر أو الحجر أو الكواكب أو البشر أن شيئاً منها خلقهم أو شارك في خلقهم، فهو الخالق، بلا شك؛ لأنه هو الوحيد من أخبر بذلك، ودلل عليه، وأما الذي يدل على إلهيته فقوله {فهو يهدين وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)}، وهذه أربع عطاءات في العدد ولكنها اثنتان في المرجع فقوله {يهدين} أي ركَّبَ فِيَّ قلباً وحواسا وعقلاً، أهتدي بها إلى ما يفيد وما يضر، وما يصلح وما لا يصلح من ناحية بقائي على الأرض، وقام -سبحانه- بدور الرب المسؤول عمن يعول، فأمدني بالماء العذب وسهل لي الزرع والغرس وأسباب الشفاء، وأما قوله {يحيين} و{يغفر} فهما بمثابة النتيجة لما سبق، فهذه الأسباب الخمسة هي أسباب عبادة الله وحده دون سواه في بساطة ووضح.  

مناظرته - صلى الله عليه وسلم - لقومه

         بتلك البساطة والعمق في الوصول إلى الحق في التعريف بالله، فإنه -عليه السلام- ناظر قومه في مسألة عبادتهم للأصنام التي كانت هياكل للأجرام السماوية التي كانوا يعبدونها من دون الله، فلذلك قال لهم: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} إلى أن قال {بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (سورة الأنبياء، آيات: 52: 65)، وكان قد ناظرهم قبل كذلك في مسألة ألوهية هذه الكواكب على نحو تفصيلي أورده الله -تعالى- في سورة الأنعام، فبين لهم أن هذه الكواكب لا تصلح أن تكون آلهة، لأنها نسبية تظهر وتأفل، فتكون في مكان ويخلو منها مكان آخر، وما كان كذلك فهو محدود غير مطلق، فلا يمكن أن يكون إلهاً بل هو مألوه مسخر، فلذلك بعد أن بيَّن لهم عوار معتقدهم فيها قدم البديل فقال:{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام: 79)، وكان قومه قد حذروه من لعنة الكواكب وغضبها عليه، {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الأنعام: 80-81)، وقد أراد أن يبرهن لهم على أن أجرام السماء لا حول لها ولا قوة فإذا دمرنا هذه التماثيل وأهلكناها فلن تفعل لنا الكواكب شيئاً ولن تحرك ساكنا، فضلا أن تستطيع التماثيل نفسها أن تدفع عن نفسها الضر، {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} (الأنبياء: 58).  

استطالة الباطل على الحق

       لقد أحرج إبراهيم -عليه السلام- أهل الباطل، وكشف خواء معتقدهم وتهافته، فعند ذلك استشاطوا منه غضبا وقرروا أن ينتصروا لهذه الآلهة المزيفة، فقرروا إحراق إبراهيم -عليه السلام-، {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}، لقد أرادوا أن يثبتوا ولو بأدنى سبب أن آلهتهم قد انتقمت من إبراهيم لنفسها، فلا يزال التحدي قائماً ولم يُثبت إبراهيم بعد صحة ما قال حين قال: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (سورة الأنعام، آية: 81)، فلكأنهم حين قرروا إحراقه، قد ساقتهم أقدار الله سوقَ دلالةٍ إلى إظهار الحق في أبهى وأنصع صوره، فقد كان إلقاء إبراهيم في النار فرصة كبيرة لإثبات أنه الأحق بالأمن فقال -تعالى- {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}(الأنبياء: 69-70).  

مفتاح النجاة

        روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: {حسبنا الله ونعم الوكيل} قالها إبراهيم -عليه السلام- حين ألقى في النار وقالها محمد -  صلى الله عليه وسلم - حين قالوا {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران: 173).  

أهم الدروس المستفادة

        لقد علمنا إبراهيم -عليه السلام- في دعوته لقومه، أن الحق أبلج وأن الباطل لجلج، فالحق ظاهر ثابت، والباطل مضطرب غامض، فعند مناظرة أهل الحق لأهل الباطل ينبغي على المناظر أن يتحلى بأربع: أولها: اليقين، وثانيها: القدرة على تعرية الباطل وإظهار فساده من أقصر طريق، وثالثها: القدرة على الدلالة إلى الحق دون تعقيد، ورابعها: الاستعانة بالله وتفويض النتائج إليه.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك