دروس مستفادة من الهجرة النبوية
إن المتأمل في الهجرة النبوية يستنبط منها دروسًا عظيمة، ويستخلص منها فوائد جمَّة، ويلحظ فيها حكمًا باهرة، يستفيد منها الأفراد والجماعات في شتى مجالات الحياة، ونستعرض في هذه المقالة بعضًا من تلك الدروس والفوائد والحكم.
أولا: الجمع بين التوكل
ضرورة الجمع بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب، فالتوكل في لسان الشرع يراد به توجه القلب إلى الله حال العمل، واستمداد المعونة منه، والاعتماد عليه وحده؛ فذلك سر التوكل وحقيقته، والذي يحقق التوكل هو القيام بالأسباب المأمور بها؛ فمن عطلها لم يصحَّ توكله؛ فلم يكن التوكل داعية إلى البطالة، أو الإقلال من العمل، ذلك أن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المراد، ودفع المكروه، بل هو أقواها.
ولقد كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - النصيب الأوفى من هذا المعنى؛ فلا يُعْرَفُ بَشَرٌ أحق بنصر الله، وأجدر بتأييده من هذا الرسول الذي لاقى في جنب الله ما لاقى، ومع ذلك فإن استحقاق التأييد الأعلى لا يعني التفريط قيد أنملة في استجماع أسبابه، وتوفير وسائله.
نهوض الأمة من كبوتها
ومن هذه الناحية فإن الدرس المستفاد هو أن الأمة التي تريد أن تخرج من تيهها، وتنهض من كبوتها لابُدّ أن تأخذ بأسباب النجاة، وعُدَد النهوض، ثم تنطوي قلوبها على سراج من التوكل على الله، وأعظم التوكل على الله التوكل عليه -عز وجل- في طلب الهداية، وتجريد التوحيد، ومتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وحصول ما يحبه الله ويرضاه من الإيمان، واليقين، والعلم، والدعوة؛ فهذا توكل الرسل وخاصة أتباعهم.
ثانياً: ضرورة الإخلاص
فالإخلاص يرفع شأن الأعمال حتى تكون مراقي للفلاح، ويجعل في عزم الرجل متانة فيسير حتى يبلغ الغاية، ولولا الإخلاص الذي يضعه الله في قلوب زاكيات لحُرم الناس من مشروعات عظيمة تقف دونها عقبات كبرى.
الداعي إلى الإصلاح
ومن مواطن العبرة في قصة الهجرة أن الداعي إلى الإصلاح متى أوتي حكمة بالغة، وإخلاصاً نقيَّاً، وعزماً صارماً، هَيَّأَ الله لدعوته بيئة طيّبة فتقبلها، وزيَّنها في قلوب قوم لم يلبثوا أن يسيروا بها، ويطرقوا بها الآذان، وهكذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث لم يرد بدعوته إلا الإخلاص لله، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور؛ فكان متجرداً من حظوظ النفس ورغائبها؛ ولم يك يطلب بدعوته نباهة شأن ووجاهة، وما كان حريصًا على بسطة العيش فيبغي بهذه الدعوة ثراءً، وكانت الهجرة دليلاً على الإخلاص والتفاني في سبيل العقيدة؛ فقد فارق المهاجرون وطنهم، ومالهم، وأهليهم، ومعارفهم؛ إجابة لنداء الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا درس عظيم يستفيد منه المسلمون فائدة عظمى، أن الإخلاص هو السبب الأعظم لنيل المآرب التي تعود على الأفراد والأمة بالخير.
ثالثاً: الاعتدال حال السراء والضراء
فيوم خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة مكرهاً لم يخنع، ولم يذل، ولم يفقد ثقته بربِّه، ولما فتح الله عليه ما فتح، وأقرَّ عينه بعزِّ الإسلام، وظهور المسلمين، لم يَطِشْ زهواً، ولم يتعاظم تيهاً؛ فعيشته يوم كان في مكة يلاقي الأذى، ويوم أخرج منها كارهاً كعيشته يوم دخل مكة ظافراً، وكعيشته يوم أظلت رايته البلاد العربية، وأطلَّت على ممالك قيصر ناحية تبوك، وتواضعه وزهده بعد فتح مكة وغيرها كحاله يوم كان يدعو وحيداً، وسفهاء الأحلام في مكة يضحكون منه ويسخرون.
والدرس المستفاد من هذا المعنى واضح جلي؛ إذ الأمة تمرُّ بأحوال ضعف، وأحوال قوة، وأحوال فقر، وأحوال غنى؛ فعليها لزوم الاعتدال في شتى الأحوال؛ فلا تبطرها النعماء، ولا تُقَنِّطها البأساء، وكذلك الحال بالنسبة للأفراد.
رابعاً: اليقين بأن العاقبة للتقوى
الذي ينظر في الهجرة بادئ الرأي يظن أن الدعوة إلى زوال واضمحلال، ولكن الهجرة في حقيقتها تعطي درساً واضحاً أن العاقبة للتقوى وللمتقين، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يُعلِّم بسيرته المجاهدَ في سبيل الحق أن يثبت في وجه أشياع الباطل، فقد يكون للباطل جولة، ولأشياعه صولة، أما العاقبة فإنما هي للذين صبروا، والذين هم مصلحون، ولقد هاجر -عليه الصلاة والسلام- من مكة في سواد الليل مختفياً، وأهلها يحملون له العداوة والبغضاء، ويسعون سعيهم للوصول إلى قتله، والخلاص من دعوته، ثم دخل المدينة في بياض النهار مُتَجلِّياً قد استقبله المهاجرون والأنصار بقلوب مُلِئَت سرورًا بمقدمه، وابتهاجًا بلقائه، وصاروا يتنافسون في الاحتفاء به، والقرب من مجلسه، وقد هيئوا أنفسهم لفدائه بكل ما يَعزُّ عليهم.
خامساً: ثبات أهل الإيمان
ويبدو ذلك في جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر - رضي الله عنه - تطمينًا له على قلقه: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما»، وهذا مثال من أمثلة الصدق والثبات، والثقة بالله، والاتكال عليه عند الشدائد، وهو دليل واضح على صدق الرسول، ودعوى النبوة؛ فهو في أشد المآزق حرجًا، ومع ذلك تبدو عليه أمارات الاطمئنان، وأن الله لن يتخلى عنه في تلك الساعات الحرجة، ففي مثل هذه الحالات يبدو الفرق واضحًا بين أهل الصدق وأهل الكذب، فالأولون تفيض قلوبهم دائمًا وأبدًا بالرضا عن الله، والثقة بنصره، وهؤلاء الآخِرُون يتهاوون عند المخاوف، وينهارون عند الشدائد، ثم لا تجد لهم من الله ولياً ولا نصيرًا.
سادسًا: احفظ الله يحفظك
ويؤخذ هذا المعنى من حال زعماء قريش عندما ائتمروا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقتلوه، أو يخرجوه قال - -تعالى-: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّه وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}، فأجمعوا بعد تداول الرأي على أن يطلقوا سيوفهم تخوض في دمه الطاهر، فأوحى الله - تعالى - إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - ما أوحى، فحثا في وجوههم التراب، وبارح مكة من حيث لا تراه أعينهم، وهذا درس عظيم، وسُنَّةٌ ماضية، في أنَّ مَنْ حفظ الله، حفظه الله، والحفظُ من الله شامل، وأعظم ما في ذلك أن يُحْفَظَ الإنسان في دينه ودعوته، وهذا الحفظ -أيضاً- يشمل حفظ البدن، وليس بالضرورة أن يُعصَمَ؛ فلا يُخلَصَ إليه البتة؛ فقد يصاب؛ لتُرفع درجاته، وتُقال عثراته، ولكن الشأن كل الشأن في حفظ الدين والدعوة.
سابعاً: أن النصر مع الصبر
قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - في سبيل دعوته في مكة ثلاثة عشر حولاً وهو يلاقي نفوسًا طاغيةً، وألسنة ساخرة، وربما لقي أيادي باطشة، وكان هَيِّناً على الله أن يصرف عنه الأذى جملة، ولكنها سنة الابتلاء يؤخذ بها الرسول الأكرم؛ ليستبين صبره، ويعظم عند الله أجرُه، وليتعلم دعاة الإصلاح كيف يقتحمون الشدائد، ويصبرون على ما يلاقون من الأذى صغيراً كان أم كبيرًا.
ثامنًا: من ترك شيئاً لله
فإن المهاجرين لما تركوا ديارهم، وأهليهم، وأموالهم التي هي أحب شيء إليهم، أعاضهم الله بأن فتح عليهم الدنيا، وملَّكهم مشارقها ومغاربها، وفي هذا درس عظيم هو أن الله -عز وجل- شكور كريم، لا يضيع أجر من أحسن عملاً؛ فمن ترك شيئاً لأجله عوضه خيراً منه، والعِوَض من الله أنواع، وأجلّ ما يُعوِّض به الإنسان أن يُرْزَقَ محبة الله -عزوجل-، وطمأنينة القلب بذكره، وقوة الإقبال عليه؛ فحري بأهل الإسلام أن يُضحُّوا في سبيل الله، وأن يقدموا محبوبات الله على محبوبات نفوسهم؛ ليفوزوا بخيري الدنيا والآخرة.
تاسعًا: فضل
فمن بركات الهجرة على المهاجرين أنهم كانوا يلاقون في مكة أذىً كثيراً؛ فأصبحوا بعد الهجرة في أمن وسلامة، ثم إن الهجرة ألبستهم ثوب عزة بعد أن كانوا مستضعفين، ورفعت منازلهم عند الله درجات، وجعلت لهم لسان صدق في الآخرين، وقد سمى الله -تعالى- الصحابة الذين فروا بدينهم إلى المدينة بـ(المهاجرين)، وصار هذا اللقب أشرف لقب يُدْعَون به بعد الإيمان، كما درَّت بركات الهجرة على أهل المدينة من آووا ونصروا أنْ علا شأنهم، وبرزت مكانتهم، واستحقوا لقب الأنصار الذي استوجبوا به الثناء من رب العالمين.
عاشرًا: أهمية التربية الإيمانية
فقد دلت الهجرة على أهمية التربية النبوية الإيمانية للصحابة -رضي الله عنهم-، فصاروا مؤهلين للاستخلاف في الأرض، وتحكيم شرع الله، والقيام بأمره، والجهاد في سبيله، ولقد كان من أثر الهجرة أن الصحابة لاستقامتهم، وكمال آدابهم، وصدق لهجاتهم يعرضون الإسلام في أقوم مثال، وأمثل صورة، فالتربية الحقة القائمة على العقيدة الصحيحة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
حادي عشر: عظم
أول عمل قام به النبي - صلى الله عليه وسلم - فور وصوله إلى المدينة هو بناء المسجد؛ لتظهر فيه شعائر الإسلام التي طالما حوربت، ولتقام فيه الصلوات التي تربط المسلم بربه، وتنقي قلبه من أدران الأرض، لقد تَرَبَّى كبار الصحابة -رضي الله عنهم- فاتحو البلاد والقلوب في المسجد، لذا فمكانة المسجد في المجتمع المسلم تجعله مصدر التوجيه لمصالح الدنيا والآخرة، فهو ساحة العبادة، وميدان العلم، ومنطلق الجهاد؛ فحري بالأمة أن تعلم دور المسجد، وأن تَقْدُره حق قدره.
ثاني عشر: عظم دور المرأة في الدعوة
ويتجلى ذلك من خلال الدور الذي قامت به عائشة وأختها أسماء -رضي الله عنهما- حيث كانتا نعم المعين والناصر في أمر الهجرة؛ فلم يخذلا أباهما مع علمهما بخطر المغامرة التي سيقوم بها، بل لقد كان دورهما أعظم من ذلك؛ حيث حفظتا سر الرّحلة، وجهزتا ما تحتاجه الرحلة تجهيزاً كاملاً، ولقد قطعت أسماء قطعة من نطاقها فأوكت به الجراب، وقطعت الأخرى وصيَّرتها عصاماً لَفَمِ القِرْبة، فلذلك سميت «ذات النطاقين».
وفي هذا الموقف ما يثبت حاجة الدعوة إلى النساء؛ فهن أرقُّ عاطفة، وأسمح نفسًا، وأطيب قلبًا، ثم إن المرأة إذا صلحت أصلحت زوجها، وبيتها، وأبناءها، وإخوتها، فينشأ جيل مُؤْثِرٌ للعفة والخلق والطهارة، وفي هذا -أيضًا- درس للمرأة المسلمة بأن تبذل وسعها في سبيل نشر الخير، ونصرة الحق، وأن تكون معينة لزوجها ووالدها وإخوانها وأبنائها على الدعوة إلى الله، ولو أدى ذلك إلى حرمانها من بعض حقوقها؛ فمصلحة الأمة أهم، وما عند الله خير وأبقى.
ثالث عشر: عظم دور الشباب
يتجلى أهمية دور الشباب ذلك فيما قام به علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عندما نام في مضجع النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما همَّ بالهجرة؛ فضرب أروع الأمثلة في الشجاعة والبطولة، ومثله ما قام به عبد الله بن أبي بكر؛ فقد أمره والده أن يتسمع ما تقوله قريش في الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر - رضي الله عنه -، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك من أخبار، ففي موقف علي بن أبي طالب وعبد الله بن أبي بكر -رضي الله عنهما- ما يثبت أثر الشباب في نجاح الدعوة، ونصرة الإسلام، وإذا تأملت السيرة رأيت أن أكثر الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا من الشباب الذين حملوا لواء الدعوة، وهذا درس عظيم يبين لنا أن الشباب هم عماد الأمة، وإذا وجهوا وجهة صحيحة على نهج الكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة، ثم علت هِمَمَهُم، وترفعوا عن سفاسف الأمور؛ كانوا مشاعل هدى، ومصابيح دجى.
رابع عشر: حصول الأُخوَّة وذوبان العصبيات
من أعظم حسنات الهجرة ما قام به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وذوبان عصبيات الجاهلية فيما بينهم؛ فلا حمِيَّة إلا للإسلام، ولا ولاء إلا لله، فسقطت بذلك فوارق النسب، واللون، والجنس، لا يتأخر أحد، ولا يتقدم إلا بتقواه ومروءته، وقد جعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه الأخوة عَقْدًا نافذًا لا لفظًا فارغًا، وعملاً يرتبط بالدماء والأموال لا تحيةً تثرثر بها الألسنة، ولا يقوم بها أثر، وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة، وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال.
ويستفاد من هذا الدرس أن الأمة الإسلامية لابُدَّ أن تجتمع على أخوة الإسلام، وعلى كتاب الله، وسنة رسوله، ونهج الأسلاف الكرام، وإلا أصبحت مفككة متناثرة لا يُهاب جنابها، ولا تُسمع كلمتُها.
معاني الهجرة وأهدافها وحِكَمها
بعد هذا الاستعراض لبعض من الفوائد والعبر من أحداث الهجرة النبوية ما أحوجنا اليوم إلى تطبيق هذه المعاني على أرض الواقع! ما أحوجنا اليوم إلى ما نصلح به ما فسد من عقائد المسلمين، وإلى أن ننخلع في بيوتنا عن الآداب التي تخالف الإسلام، وأن نُعيد إلى هذه البيوت الصدق، والاستقامة، والاعتدال، والتواضع، والعزة، والكرم، والتعاون على الخير، إلى غير ذلك من المعاني السامية! فقبل أن نبدأ في علاج الأمَّة يجب أن نبدأ بالأقرب فالأقرب؛ فنبدأ في بيوتنا، فنهاجر نحن ومن فيها إلى ما يحبه الله، وننخلع عن كل ما لا يرضيه -عز وجل-، ثم نتحرى في مجتمعاتنا أنظمة الإسلام وآدابه، ونهجر كل ما خالفها من سلوكيات ومعاملات وأخلاق.
لاتوجد تعليقات