رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 17 أغسطس، 2023 0 تعليق

خطبة الحرم المكي – من ضوابط الاجتهاد وآدابه

جاءت خطبة الحرم بتاريخ:  17 محرم 1445ه، الموافق 4 أغسطس 2023م، بعنوان: (من ضوابط الاجتهاد وآدابه)، لإمام الحرم المكي الشيخ د. عبد الرحمن السديس، الذي أكد أنَّ الله -تعالى جلَّت حكمتُه- اصطفى شريعتَنا الإسلاميَّة الغرَّاء؛ فكانت صالحةً لكل زمان ومكان، مُنَزهةً عن العيب والخلل والنقصان؛ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}(الْمَائِدَةِ: 3).

  ثم بين الشيح السديس أن من القضايا التي أَوْلَاها التشريعُ المنزلةَ الساميةَ المنيعةَ، وبَوَّأها من التحقيق الصدارةَ والطليعةَ، قضيةَ الاجتهاد في الدِّين؛ فنوَّه بشأنه وآثاره، وحضَّ أولي العِلم على انتهاجه واستئثاره؛ فهو أصل معتَبَر في الشريعة، قامت في الملة السمحة براهينُه وشواهدُه، ولاحَتْ للعلماءِ الثقاتِ ضوابطُه وقواعدُه، وهو استفراغُ الجُهْد في دَرَكِ الأحكامِ الشرعيَّةِ، فيما لا نصَّ فيه.  

تحقيق مصالح العباد

      يقول الإمام الشاطبي -رحمه الله-: «والشريعة ما وُضعت إلا لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد، ودَرْء المفاسد عنهم»، ومن القواعد الفقهيَّة المقررة في الشريعة: «المشقَّة تجلِب التيسيرَ»، «وإذا ضاق الأمرُ اتَّسَعَ»، كما أن مدار أحكام الشريعة على «جلب المصالح وتكمليها، ودَرْء المفاسد وتقليلها»، والنصوص تنقسم إلى متواتِر وآحاد، وإلى ما هو قطعيّ الثبوت والدلالة وظنيهما، والعكس؛ ممَّا يتطلَّب النظرَ السديدَ، والفَهْمَ الرشيدَ؛ حتى لا يظنَّ ظانٌّ أن الدين قد تغيَّر، وأن الشريعة تبدَّلَت، لكنَّه النظر العميق، والفَهْم الدقيق، والتيسير والسعة، ومراعاة المقاصد والمصالح.  

الاختلاف في فَهْم النصوص

      لقد كان الاختلاف في فَهْم النصوص وتفسيرها أرضًا خصبةً في بيان سَعة الشريعة ومرونتها، وبرهانًا ساطعًا على يُسر الدِّين وانسجامه مع المتغيِّرات، ورعايته للمقاصد النيِّرات، وتحقيقه للمناط في النوازل والمستجِدَّات، أخرَج البخاري ومسلم في صحيحيهما، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه: «مَنْ كان يؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فلا يصلينَّ العصرَ إلا في بني قريظة»، فاختلف الصحابة -رضي الله عنهم- في فَهْم ذلك على رأيين، أقرَّهما المصطفى – صلى الله عليه وسلم - ، وكذا في جملة من المسائل والفروع، عدَّها أهلُ العلم من اليُسر والسعة، التي لا يعيب فيها أحدٌ على الآخَر، على ضوء القاعدة التيمية الذهبية: «رفع الملام عن الأئمة الأعلام»؛ فالأحكام الثابتة: وهي الأحكام المنصوص عليها في القرآن والسُّنَّة، وتشمَل أصولَ الإيمان، وفرضيةَ العبادات، وتحريمَ القتل والسرقة والزنا... وغيرها، فهذه الأحكام القطعية لا مجالَ فيها لقولِ قائلٍ، أو إعمالِ عاقلٍ، فضلًا عن أن تتحدَّث الرويبضةُ في أمور الشريعة، أو يخوض العامَّةُ في مسائل التحليل والتحريم، وهم ليسوا في العِلْم شَرْوَى نقيرٍ أو قطميرٍ.  

تجديد النظر في المسائل الاجتهاديَّة

      ولقد كان لأصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم - القِدْحُ المعلَّى، في التيسير والسعة، وتجديد النظر في المسائل الاجتهاديَّة مع تغيُّر الأحوال والظروف والمستجِدَّات؛ كما فعَل أبو بكر الصديق – رضي الله عنه - في حروب الردة؛ حيث قَدَّم حفظ الدِّين على غيره، وما فعله عثمانُ بنُ عفانَ – رضي الله عنه - مِنْ جمعِ الناسِ على مصحفٍ واحدٍ، وما قام به المحدَّثُ الفاروقُ عمرُ – رضي الله عنه - من درء الحد بالشبهة في عام الرمادة؛ لعدم الإضرار، وقد كتَب – رضي الله عنه - لأبي موسى الأشعري كتابًا جاء فيه: «ولا يمنعنَّكَ قضاءٌ قضيتَ به اليومَ، فراجعتَ فيه رأيكَ، وهُدِيتَ فيه لرشدكَ، أن تُراجِع فيه الحقَّ، فإن الحق قديم، لا يُبطِله شيءٌ، ومراجعةُ الحقِّ خيرٌ من التمادي في الباطل»، وفي هذا دليل على أن الاجتهاد قد يتغيَّر ويتجدد، وقال – رضي الله عنه - في مسألة في الميراث: «تلك على ما قضينا يومئذ، وهذه على ما قضينا اليوم»، وفي طاعون عمواس قال: «نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللهِ إلى قَدَرِ اللهِ»، وكان – رضي الله عنه - إذا نزلت في المسلمين نازلةٌ جمَع لها المهاجرينَ والأنصارَ وأهلَ بدر.  

أئمةُ الْهُدَى وعلماءُ الإسلام

     وعلى هذا الهَدْي الرشيد سار أئمةُ الْهُدَى وعلماءُ الإسلام: فتوسَّع الحنفيةُ في إعمال الرأي والقياس، وللمالكية توسُّعٌ في المقاصد وعمل أهل المدينة، وكان للشافعي قولانِ؛ قديم، وجديد، وللإمام أحمد روايتان، بل روايات، وأوجُه وتخريجات، وكان هذا سائغًا وليس باعثًا للخلاف، ولَمَّا أراد الخليفةُ جمعَ الناس على مذهبٍ واحدٍ نصَحَه بعضُ الأئمة بألَّا يفعلَ ذلك للتوسعة على الأُمَّة، وألَّف مالكٌ الموطأَ ووطَّأه توطئةً، وألَّف محمد بن الحسن كتاب الخلاف، ثم سمَّاه كتاب (السعة)، وهكذا كان دأبهم وديدنهم؛ تيسيرًا وسعةً وإسعادًا، وتجديدًا دائمًا في مسائل النظر والاجتهاد.  

أهم ضوابط التجديد

وإنَّ من أهم ضوابط التجديد والنظر في مسائل الاجتهاد:  
  • أن يقوم أهل الحلِّ والعقد والعلم والحكمة
أن يقوم عليه أهل الحلِّ والعقد والعلم والحكمة؛ فإن موافقةَ الشرع ومقاصد الشريعة تحتاج إلى العلماء الربانيين، ذوي العقليات الفذَّة والمَلَكات الاجتهاديَّة، الذين يُحْكِمون الأصولَ والقواعدَ، ويَزِنُونَ الأمورَ بميزان الشرع الحنيف، وأَنْ يكونَ مجالُ التجديدِ في الفروع والجزئيات والمتغيرات والوسائل والصياغات... ونحوها؛ لأن من سمات الشريعة الغَرَّاء المرونة والصلاحية لكل الأزمنة والأمكنة، ومراعاة الظروف والمتسجِدَّات والمتغيرات، والأحوال والبيئات، وهذا يقتضي شرعًا وعقلًا أن تستوعبَ الشريعةُ هذه الأمورَ كلَّها، وأن يكون التجديدُ مُحَقِقًا لمصلحةٍ شرعيةٍ معتبَرةٍ، أو دَارِئًا لمفسدة مُحَقَّقَةٍ أو راجحة.   وهنا يؤكَّد أنه لا يجوز النَّيْل من العلماء السابقين ولا المعاصرين، والحذر من تصنيفهم واتهامهم في عقائدهم ومناهجهم واجتهاداتهم، ولا اتهامهم بالتساهل في أمور الشريعة والتقصير فيها، ورميهم بالتُّهَم والشنائع، والشائعات المغرِضة؛ من أجل اجتهاد في مسألة، والطَّعْن في نياتهم ومقاصدهم، والجرأة على أعراضهم، بل هم بين مجتهِد مصيب له أجران، ومخطِئٍ له أجرٌ، فيجب تقديرُ اجتهادهم، والأدبُ معهم، كما هو منهج السلف -رحمهم الله-، فهم الرموز العِلميَّة، والقامات الشرعيَّة والقدوات الإسلامية، وقد قال الإمام الذهبي -عليه رحمة الله-: «ولو أنَّا كلما أخطأ منا عالِم أو إمام بدَّعْناه وجهَّلناه ما بقي منا أحدٌ، ولكنَّ الموفَّق مَنِ اغتُفر قليل خطئه في كثير صوابه».  
  • ما يسُنُّه ولاةُ الأمر من أنظمة وتشريعات
ومن مجالات التجديد في المسائل الاجتهاديَّة ما يسُنُّه ولاةُ الأمر من أنظمة وتشريعات تُحقِّق مصالحَ الرعية، ومن القواعد المقرَّرة في الشرعية: حُكم الإمام في الرعية منوط بالمصلحة، وحُكم الحاكم يرفع الخلاف، والأصل في الأشياء الإباحة، يقول الإمام العز بن عبدالسلام -رحمه الله- في قواعد الأحكام في مصالح الأنام: «إذا اجتمعت مصالحُ ومفاسدُ فإن أمكَن تحصيلُ المصالح ودرءُ المفاسد فعَلْنا ذلك؛ امتثالًا لأمر الله -تعالى- فيهما؛ لقوله -سبحانه وتعالى-: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}(التَّغَابُنِ: 16)، وهذه الأمور لا يضبطها إلا أهلُ العلم والفقه والنظر؛ حتى لا يكون التجديد مبنيًّا على الرغبات والأهواء، والمشتَهَيات والآراء، ونحوَه قال الإمام القرافي -رحمه الله.   زَمَن الانْفِتَاح الإعلامِي وفي زَمَنِ الانْفِتَاح الإعلامِي العَالَمِي المُبْهِر، بِفَضائِيَّاتِهِ، وتِقَانَاتِه، لَزِمَ العُلماءَ الأجِلَّاءَ، والدُّعَاةَ الفُضَلاءَ بَذْلُ غاية الجهود للنظر في النوازل والمستجِدَّات، لاسيما في المعامَلات المالية، والقضايا الطبية، وقضايا المرأة والأحوال الشخصية ونحوها، وإنَّهَا لَقِمِينَةٌ بِأنْ تُؤَصَّل على ضَوْءِ المفاهيم الشرعِيَّة الصَّحِيحَة، التي تُجَلِّي فِقْهَ المَآلات، واعْتِبار الأوْلَوِيَّات، والاجتهاد المقاصدي، في ترفع أن تلوكها أقلام الصحافة والإعلام، أو تتراشقها المنتديات وشبكات المعلومات، ووسائل التواصل الاجتماعي.   ويتحقق ذلك بالاجتهاد الجماعي، في المجامع الفقهية، والهيئات العالمية المعتبرة، مع مراعاة الأحوال والمكان والزمان والبيئات والظروف والعادات والأعراف والأشخاص، التي يتجدد بها النظر في المسائل والنوازل المعاصرة، كما أفاض في ذلك الإمام العلامة ابن القيم في (إعلام الموقعين).          تحقيق التيسير والسعة والإسعاد وهكذا يتحقق التيسير والسعة والإسعاد، في تجديد النظر في مسائل الاجتهاد، كما ينبغي أن يعلم، أن ما يثار اليوم حول حرية الرأي والتعبير في تجافٍ عن الثوابت والقواسم المشترَكة بين الثقافات والحضارات خلافُ هذا المنهج الأصيل؛ ممَّا يُثير التعصبَ والكراهيةَ والأحقادَ وصدامَ الحضارات، ويَبعَث على التطرف والإرهاب، وما قضيةُ تَكرارِ حرقِ المصحفِ الشريفِ والمساس بمقدَّسات المسلمين إلا نماذجُ مِنْ سُوء الفَهْمِ لِمَا اشتملَتْ عليه الشرائعُ من مراعاة المقاصد الكبرى في حفظ الدِّين والأنفس والعقول والأعراض والأموال، فنَعَمْ للحرية المنضبطة، ولا وأَلْفُ لا للحرية العبثية الاستفزازية المزيَّفة، فهل يعي العالَمُ اليومَ ضبطَ المصطلحاتِ، وعدمَ الانخداع بلَبْس الحقائقِ والعباراتِ؛ بما يُحقِّق عالَمًا إنسانيًّا يتحقَّق فيه الأمنُ والسلامُ والتسامحُ والتعايشُ والوئامُ.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك