
خصائص المنهج السلفي – الخاصية الأولى: شمولية المنهج
- منهج أهل السنة والجماعة مستمد من منهج الوحي في عرض رسالة الإسلام بجوانبها المتعددة عرضًا شاملاً في وحدة متكاملة
- حين عمل السلفيون في العصر الحديث على استعادة المسلك الذي كان عليه السلف الصالح والعودة بالإسلام إلى صفائه الأول إنما عملوا بهذه النظرة الشمولية لكل جوانب الإسلام
إن المنهج السلفي يعني الطريق الواضحة البينة لما كان عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالمنهج السلفي ليس حقبة تاريخية مضت وانقضت، بل هو منهج له أصوله وقواعده وخصائصه، وليس له وقت ينتهي إليه ولا يتقيد بمكان ينحصر فيه، وإن معرفة خصائص المنهج السلفي تعين على تحديد معالمه وتمييز هويته في هذا الزمن الذي كثرت فيه الدعاوى بالانتساب لهذا المنهج المبارك، ومن الرسائل الجامعية المميزة التي تناولت هذا الموضوع رسالة د. مفرح بن سليمان القوسي (عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض) التي كانت بعنوان: (المنهج السلفي: تعريفه، تاريخه، مجالاته، قواعده، خصائصه).
وسنتناول في هذه السلسلة الحديث عن (خصائص المنهج السلفي)، نظرًا لأهمية هذا الموضوع في الوقت الحالي، وقد ذكر المؤلف أنَّ من أول الخصائص التي يمتاز بها منهج السلف أهل السنة والجماعة بأنه منهج ذو طابع شمولي، ولهذا الشمول مظاهر عديدة منها:أولاً: شمولية المنهج
فأهل السنة والجماعة -رحمهم الله- منهجهم في تناول الإسلام وفي عرض رسالته - دعوة وتدريسًا وكتابة وتأليفًا - بجوانبها المتعددة في العقيدة والعبادة والسلوك والأخلاق والسياسة والاقتصاد والاجتماع... الخ، مجتنبين بذلك الطريقة المجزئة للإسلام التي تحصل بسبب تناول جانب منه وإغفال ما سواه. وذلك مستمد من منهج الوحي في عرض رسالة الإسلام بجوانبها المتعددة عرضًا شاملاً في وحدة متكاملة، كقوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وقوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِد وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدين}، وقوله: {وَلَتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وينهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، وقوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}.فهم عميق شامل
ونشأ من فهم السلف لرسالة الإسلام وأهدافه فهم عميق شامل، ويُمثل ذلك أحسن تمثيل ذلك التلخيص الرائع الذي لخص به ربعي بن عامر - رضي الله عنه - الإسلام حينما دخل على قائد الفرس رستم للمفاوضة قبل بدء القتال، وأراد القائد الفارسي أن يثنيه وأصحابه عن القتال بإغرائهم بالمال، حيث قال: ما لهذا جئنا، إنما ابتعثنا الله لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. فقد شملت الفقرة الأولى من كلامه - رضي الله عنه -: تحرير الإنسان من جميع العبوديات، ويدخل في ذلك التحرر السياسي والاجتماعي وتمحيص عبودية الإنسان لله وحده، وشملت الفقرة الثانية: الجانب النفسي والأخلاقي لدى الإنسان، وذلك بجعل أهدافه أبعد مدى وأعلى من الأهداف المادية القريبة ذات الإطار الضيق، وشملت الفقرة الثالثة: تقويض الأنظمة الاجتماعية الجائرة وإقامة نظام اجتماعي عادل، ويشمل ذلك أحكام الإسلام في التشريع المالي والسياسي والاجتماعي.الرسائل المتبادلة بين الخلفاء وعمالهم
كما يمثل ذلك الرسائل المتبادلة بين الخلفاء الراشدين وعمالهم في الأقاليم في شموليتها لجوانب الإسلام كافة، فقد كان الإسلام بالنسبة إليهم -رضي الله عنهم- قناعة عقلية بحقائقه الإيمانية، وفهماً وتطبيقاً لأحكامه العملية سواء في مجال العبادات أم المعاملات، وشعوراً نفسياً بالمسؤولية أمام الله في تنفيذ تلك الأحكام، سواء تعلقت بأنفسهم أم بغيرهم. فكانت هذه الجوانب الثلاثة العقلي والعملي والنفسي تؤلف وحدة مترابطة لا تنفصل.ما كان عليه السلف وأئمتهم
ويمثل ذلك أيضًا ما كان عليه السلف وأئمتهم في العصور التالية لعصر الصدر الأول للإسلام من إدراك تام لشمولية الإسلام في أحكامه وتشريعاته، ومنهم ابن تيمية الذي يقرر أن الشريعة التي بعث الله بها محمدًا - صلى الله عليه وسلم - جـامـعـة لمصالح الدنيا والآخرة، فيقول: «الشريعة جامعة لكل ولاية وعمل فيه صلاح الدين والدنيا، والشريعة إنما هي كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه سلف الأمة في العقائد والأحوال والعبادات والأعمال والسياسات والأحكام والولايات والعطيات»، ويقول أيضاً بعدما ذكر أن مسمى (الشريعة ) يطلق لدى علماء السلف على كل ما شرعه الله ورسوله من الأقوال والأعمال: وبهذا «يتبين أنه ليس للإنسان أن يخرج عن الشريعة في شيء من أموره، بل كلما يصلح له فهو في الشرع من أصوله وفروعه وأحواله وأعماله وسياسته ومعاملته وغير ذلك».السلفيون في العصر الحديث
وحين عمل السلفيون في العصر الحديث على استعادة المسلك الذي كان عليه السلف الصالح والعودة بالإسلام إلى صفائه الأول، إنما عملوا ذلك على أساس من هذا الفهم وطبقاً لهذه النظرة الرحبة الفسيحة لكل جوانب الإسلام بوصفه منهجاً ربانيا لا يعتوره نقص ولا قصور.ثانيًا: رجوعهم إلى النصوص الشرعية
أهل السنة والجماعة يرجعون إلى النصوص الشرعية الواردة في مسألة معينة والنظر فيها نظرة شمولية، المعرفة ما قرره الله ورسوله بشأن تلك المسألة، وعدم الاقتصار فيها على بعض النصوص دون بعض، وهذا ناشئ من عدم تفريقهم بين النصوص، ومن أنه ليس لديهم أصول عقلية مقررة سلفاً ليأخذوا من النصوص ما وافقها، ويدعوا ما خالفها، كما هو شأن أهل الأهواء؛ إذ ما من طائفة من طوائفهم إلا وأخذت بجزء من النصوص مما يوافق مذهبها وتركت ما سواها؛ مما أدى إلى قيام كل طائفة بالطعن في أدلة الطائفة الأخرى، أما أهل السنة والجماعة فيأخذون بجميع النصوص - كما تقدم - فيكون معهم الحق الذي مع كل من الطائفتين المنحرفتين، ويسلمون من الباطل الذي معهما.ثالثًا: شمول حركتهم الإصلاحية
أهل السنة والجماعة حركتهم الفكرية الإصلاحية تشمل رصيد الأمة الإسلامية من العقيدة والشريعة والحضارة، ولم تكن حركتهم تلك محدودة موجهة إلى مراجعة جانب من جوانب الانحراف الفكري، بل كانت حركة شاملة أخضعت بدقة وعمق جوانب الحياة الفكرية كلها إلى الدراسة والنقد، فقد راجعوا -رحمهم الله- التيارات الفلسفية والتيارات الصوفية المتفلسفة، والتيارات الباطنية من أرباب الفرق الغالية، والديانات المحرفة وتيارات الفكر الإسلامي المتمثلة بتراث المفكرين المتكلمين من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم، كما راجعوا الفكر الفقهي الاجتهادي، وكذا نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية بحسم ووضوح.إنقاذ عقائد الإسلام
وعملوا على إنقاذ عقائد الإسلام من الفلسفات الضالة ذات الأصول الوثنية ومظاهر التعقيد العقدي المفضي إلى زعزعة عقائد المسلمين، كما عملوا على تنقية عقائد الإسلام من كل دخيل فيها مهما كان جليا أو دقيقاً، فعرضوا هذه العقائد مرة أخرى صافية حقيقية من خلال آيات القرآن الكريم الواضحة والسنة النبوية الصحيحة، وفي إطار الضوابط المجمع عليها لتفسير النصوص.إحياء روح الإبداع الاجتهادي
ودعوا إلى تحريك الفكر الفقهي الإسلامي وإحياء روح الإبداع الاجتهادي وعدم الوقوف على آراء الرجال، والاستنباط المباشر في كل عصر من القرآن الكريم والسنة الصحيحة، وكان سلاحهم في هذه المراجعة التاريخية الشمولية: إيمانا بالله وإخلاصا لدينه وجهادا في سبيله وعلما غزيرا، واطلاعا واسعا على المعارف الإنسانية السائدة في عصورهم.
لاتوجد تعليقات