حقيقة الهجرة إلى الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم –
- يظن بعض الناس أن الهجرة في زمن الفتن تعني الانعزال عن الناس واعتزال المجتمع إلا أن هذا ليس الأفضل في كل الأحوال بل الأفضل مخالطة الناس والصبر على أذاهم والسعي في نفعهم وتعليمهم الخير
- من الهجرة هجر المجالس التي تخوض في آيات الله وشرعه بغير علم ولا هدى ووجوب الخروج منها فإن المنكر إذا لم تقدر أن تغيره فتول عنه
- العبادة في زمن الغُربة وأيام الفتن عبادة عظيمة إذ العبادة الخالصة لله تعالى وقت الشدائد والمحن تساوي في الأجر هجرة إلى رسول الله صلى الله عليه
أنزل الله دين الإسلام وبين فيه الشرائع والأحكام والحلال والحرام، وميز فيه الحق من الباطل، والهدى من الضلال، والتوحيد من الشرك، والكفر من الإيمان، والسنة من البدعة، والطيب من الخبيث؛ ومع هذا النور المبين والحق المتين، أرسل رسله لتبليغ دينه وتعليمه ؛ ليكونوا إلى الخير داعين ومبلغين، ومن الشر محذرين ومنذرين، وقد جاءت الرسل حاملة لواء الحق داعية إلى الاستقامة عليه ولزومه، كما أنها حذرت من الباطل بشتى صوره وأشكاله، وأرشدت إلى وجوب هجره والابتعاد عنه كافة، قال الله -تعالى-: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة: 229).
كما إن الله رتّب على من تعدّى هذه الحدود واقترف تلك المعاصي وزاول ذلك الباطل، العقوبة العاجلة في الدنيا والآخرة، قال الله -عز وجل-: {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} (الحج: 9)؛ ومن هنا كان لزاما على العباد تجنب المعاصي والبعد عنها، ولعلنا في هذه السطور نذكر بعضاً من مظاهر ذلك الاجتناب وصورٍ من ذلك الهجر، وذلك ما يلي:(1) هجر المجالس التي تخوض في آيات الله
هجر المجالس التي يُخاض فيها في آيات الله وشرعه بغير علم ولا هدى ووجوب الخروج منها؛ فإن المنكر إذا لم تقدر أن تغيره، فتول عنه، قال -تعالى-: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (الأنعام: 68)، وقال عن إبراهيم -عليه السلام- حين قال لقومه الذين رفضوا دعوته والاستجابة للدين الذي جاء به: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} (مريم: 48).(2) الفرار من الأذى
إذا خشي المسلم على دينه ونفسه وماله وعرضه فله أن يهاجر؛ فقد أذن الله له في الخروج والفرار حتى يحمي عقيدته وينجو بنفسه وأهله وماله وعرضه؛ يقول الله في محكم آياته على لسان نبيه إبراهيم -عليه السلام-: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (لعنكبوت: 26)، كما هاجر النبي -[-وصحابته الكرام؛ فارين بدينهم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة وطيبة الطيبة التي شاء الله أن تلد الأنصار والأخيار. وهكذا في كل زمان ومكان يجب على المستضعفين والمضطهدين في دينهم أن يهاجروا في أرض الله الواسعة، قال -سبحانه- منكرا على من بقي في دار الهوان والذل، {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (النساء: 97). (3) هجر ما نهى الله ورسوله عنه ومن الصور -كذلك- هجر ما نهى الله ورسوله عنه ، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وقد أخبر النبي الكريم - صلى لله عليه وسلم -أن المهاجر الحق هو من «مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ»، ويقتضي هجر ما نهى الله عنه، هجر الشرك إلى التوحيد، وهجر الضلال إلى الهدى، وهجر الباطل إلى الحق، وهجر الكفر إلى الإيمان، وهجر النفاق وسوء الأخلاق والزور والفواحش والغيبة والنميمة، وسائر الذنوب والمعاصي والمحرمات القولية والعملية والاعتقادية، وهذه الهجرة باقية حتى طلوع الشمس من مغربها، ولا تنقطع حتى تنقطع التوبة، قال - صلى لله عليه وسلم -: {لاَ تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ وَلاَ تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا}. (4) البراءة من أهل الشرك والكفر ومن صور هجر الباطل؛ البراءة من أهل الشرك والكفر ومما يدعون إليه، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ}(الزخرف: 26)، وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ{ (التوبة: 23)، وقال -سبحانه-: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُر}.سمات المهاجر الحق
بعد أن عرفنا الهجر بشتى صوره وأشكاله، وما يجب على المسلم هجره ومفارقته، لابد في هذا المقام أن نتطرق إلى أوصاف المهاجر الحق؛ حتى نحرص عليها والقيام بفعلها، وإليكم بعضا من ذلك:- إخلاص القصد لله -تعالى-: أن المهاجر الحق هو من أخلص القصد، واكتسب الخبرة والمهارة التي تؤهل المسلمين لمستقبل التمكين في الأرض، أخذا بالأسباب التي أمروا بها، قال -تعالى-: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (الأنفال: 60).
- الإقلاع عن المحرمات: المهاجر من أقلع عن المحرمات وندم على ما اقترف من الخطيئات وعزم على أن الا يعود لفعل المنكرات، وتاب إلى رب البريات القائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (التحريم: 8).
- التضحية بالغالي والنفيس: والمهاجر الحق هو الذي ضحي وبذل الغالي والرخيص دون منة أو تردد أو توان؛ فراراً بدينه طالباً العِوَض من الله-تعالى- فيما ترك وخلف وراءه من تنازل عن دنياه ووطنه؛ لأجل دينه وعقيدته، كما صنع سادة المهاجرين الذين فروا بدينهم من مكة إلى المدينة؛ فتنازل صهيب الرومي عن ماله، وتنازل أبو سلمة عن قبيلته، وتنازل الجميع عن ديارهم وأموالهم طلبا في علو دينهم ومرضاة ربهم -عز وجل-.
كيف نحصل على ثواب المهاجرين؟
العبادة في زمن الغربة وأيام الفتن عبادة عظيمة؛ إذ العبادة الخالصة لله -تعالى- وقت الشدائد والمحن تساوي في الأجر هجرة إلى رسول الله - صلى لله عليه وسلم -، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: «العبادة في الهرج كهجرة إليّ»، وفي رواية أخرى: «العبادة في الفتنة كهجرة إليّ»؛ فالعبادة في زمن الفتن كهجرة في سبيل الله، والهجرة في الإسلام، ولا سيما في أوقات الغربة والاضطراب، سبب للمغفرة والرحمة، قال -تعالى-: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (النحل: 110).الهجرة في زمن الفتن
وفي أوقات الفتن، وما أكثرها في هذا الزمان! تضطرب العقول، وتتشوش النفوس، وتختلط المفاهيم، فيغيب الصواب ويضعف الثبات، ويغلب الهوى، ويكثر دعاة الضلال، ويبرز رؤوس الفتنة، فيُستبدل المعروف بالمنكر، والمنكر بالمعروف، ويُقبل الناس على زخارف الدنيا وينصرفون عن الهدى، فطوبى لمن هاجر إلى ربه بقلبه، وفارق مواطن الفساد، وارتفع بنفسه عن أهواء الناس وضلالاتهم، مقتديًا بالسابقين الأولين الذين تركوا الأوطان والأموال والأهل ابتغاء وجه الله، ففازوا برضوانه وجنته، وما أشد صبرهم، وما أعظم ثباتهم، أولئك الذين بشّرهم النبي - صلى لله عليه وسلم - بقوله: «إن من ورائكم أيامًا الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلًا منكم!».فهم خطأ للهجرة في زمن الفتن
يظن بعض الناس أن الهجرة في زمن الفتن تعني الانعزال عن الناس، واعتزال المجتمع ولزوم المساجد أو البيوت للعبادة والذكر وقراءة القرآن، وهذا وإن كان مشروعًا في وقت ما، كما قال النبي - صلى لله عليه وسلم -: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن»، إلا أن هذا ليس الأفضل في كل الأحوال، بل الأفضل في كثير من الأحيان مخالطة الناس والصبر على أذاهم، والسعي في نفعهم، وتعليمهم الخير، ودلالتهم على الهدى، فيكون المسلم بقيامه بأمر الله بين الناس قدوةً حسنةً وأُسوةً صالحة.
لاتوجد تعليقات